الفرقة الناجية بين النص النبوي والتأويل الطائفي… من يحتكر النجاة؟

أخبار

 رشيد المباركي: في قلب التحولات الكبرى التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم، حيث تتقاطع أسئلة الهوية مع رهانات العيش المشترك، وتتنازع خطاباتُ الإقصاء والتكفير مع دعوات الوحدة والتعارف، ينهض سؤال تجديد قراءة التراث بوصفه ضرورةً لا ترفًا، وحاجةً ملحّة لا مجرد رفاهٍ فكري. ولعلّ إحدى أعقد المفاصل في هذا المسار هي تلك المرتبطة بموقع النصوص الدينية في صناعة التصورات الجماعية، وبالذات النصوص التي جرى تحميلها أعباء تصنيفية إقصائية أدت إلى تجذير الفُرقة بدل تعزيز الجمع، وإلى تأبيد الصراع بدل إحياء الحوار. في هذا السياق يطرح الحديث الشهير عن افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة نفسه كمثال صارخ على كيفية انزلاق الاجتهاد البشري في فهم النصوص إلى مرتبة القداسة الموهومة، وهي القداسة التي تحوّلت مع الزمن إلى سلطة معرفية متعالية على النقد، قادرة على إنتاج دوائر الحلال والحرام، والحق والباطل، والجنة والنار، لا بوصفها اجتهادات قابلة للمراجعة، بل باعتبارها أحكامًا مطلقة خالدة.

النص والتأويل: كيف تحوّل حديث الافتراق إلى سلاح للاحتكار العقدي؟

من هنا تنبع أهمية الندوة الحوارية التي احتضنها معرض أبوظبي الدولي للكتاب تحت عنوان الفرقة الناجية الاصطفاء بين الموروث وإعادة التأويل والتي شكّلت محطة علمية جريئة في مساءلة هذا التراث بكل ما يحمله من أثقال التوظيف الأيديولوجي والتأويل المغلق، وجاءت هذه الندوة لتفتح فضاءً من التساؤل المفتوح حول إمكانات تحرير النصوص الدينية من القراءات الانغلاقية التي أفضت عبر القرون إلى تبرير الاقتتال المذهبي وإنتاج ثقافة الاحتكار العقدي ولعلّ اللافت في هذه المبادرة الفكرية أنها لم تقف عند حدود النقد النظري المجرد بل ارتبطت بجهد بحثي عميق تجسد في كتاب الدكتور محمد بشاري المعنون الفرقة الناجية وهم الاصطفاء مدخل إلى تفكيك أوهام صراع المفاهيم وهو الكتاب الذي يمثل تتويجًا لمسار من الاشتغال النقدي الرصين على بنية الخطاب الديني وسؤال الشرعية في الفكر الإسلامي.

إن ما يمنح هذا العمل الفكري قيمته المضاعفة هو تزامنه مع سياق عربي وإسلامي يرزح تحت وطأة أزمات متعددة الأبعاد حيث تنفجر بين الفينة والأخرى صراعات طائفية تعيد إلى الواجهة مقولات الاصطفاء واحتكار الحقيقة وتُستدعى تلك الأحاديث والروايات التي وُظفت تاريخيًا لتأصيل هذه الانشطارات وتعزيز منطق التكفير والإخراج من الملة وقد بدا جليًا أن هذه البنى الخطابية ليست مجرد مخلفات ماضوية بل هي أدوات حية فاعلة في صياغة الراهن وفي التأثير على توجهات الأفراد والجماعات وتغذية ثقافة العنف الرمزي والمادي معًا.

لذلك فإن إعادة النظر في هذه النصوص وفي كيفية تلقيها وتأويلها يمثل مدخلًا رئيسيًا لتحرير الوعي الإسلامي من هذه الدوائر المغلقة ولإعادة بناء علاقة المسلم بالآخر على أسس تقوم على العدل والرحمة والتعارف بدل أسس الاصطفاء والمفاصلة القاتلة وإذا كان حديث الافتراق قد احتل موقعًا مركزيًا في منظومات التصنيف العقائدي عبر التاريخ فإن سؤال مشروعية هذا الموقع يظل اليوم سؤالًا معلقًا ينتظر الجرأة الفكرية الكافية لطرحه على مائدة الحوار دون خوف من قداسة موهومة أو مهابة مصطنعة.

لقد استندت الندوة إلى فرضية مؤداها أن النص الديني بريء في ذاته من هذه التوظيفات التي ألحقها به بعض القراءات البشرية وأن الخلل لا يكمن في النص بل في المنهج الذي استُعمل لفهمه وفي الأيديولوجيا التي وجّهت هذا الفهم فالنص كما هو في بنيته قابل للتعدد والتأويل ويُفترض أن يظل مفتوحًا على القراءات المقاصدية التي تنطلق من روح الدين لا من حرفية المتون وتستلهم القيم الكبرى في بناء الإنسان والمجتمع بدل أن تستنزف نفسها في صناعة دوائر المغالبة والتكفير.

من هذا المنطلق دارت محاور الندوة التي شارك فيها نخبة من الفاعلين في الحقل الفكري والدبلوماسي والثقافي حيث التقت الرؤية التحليلية النقدية للدكتور محمد بشاري مع مداخلات أخرى أغنت النقاش ووسّعت دائرة الأسئلة المطروحة على هذا الملف الحيوي فقد أبدى النجم المصري العالمي حسين فهمي حضوره المميز وتفاعله اللافت مع ما طُرح في الجلسة معبرًا عن إعجابه بالطرح العلمي الذي يتسم بالشجاعة والعمق وداعيًا إلى مواصلة البحث الأكاديمي الجاد لتنقية التراث من الدخائل التي شوّهت صورته وأخرجته عن مقاصده الأصيلة كما جاءت مداخلة سعادة الدكتور أحمد التازي سفير المملكة المغربية بأبوظبي لتضيف بعدًا هامًا على مستوى فهم العلاقة بين الفقيه وتراثه حيث طرح سؤال صناعة فقيه العصر المتبصر القادر على استيعاب تراثه بكل عمقه ومراكمة فقه الواقع بمتغيراته الحية مع امتلاك مرونة تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة دون إخلال بالثوابت ولا تغليب للأهواء وهو ما يمثل الرهان الحقيقي في معركة تجديد الخطاب الديني.

وقد اختتم الدكتور سليمان الهتلان هذه الندوة الغنية بدعوة صريحة إلى مراجعة تراثنا وفق متطلبات أمتنا المعاصرة لا بمعنى القطع مع الماضي أو التنكر له بل من خلال مساءلته في ضوء حاجات الحاضر وأسئلته بحيث يتحول التراث من عبء على حاضرنا إلى معين يضيء دروب المستقبل ومن مخزون للانقسام إلى رافد للوحدة والتعايش.

إن المأزق الذي اشتغل عليه هذا اللقاء الفكري لا يتعلق بموضوع جزئي أو بفرع فقهي محدود بل يمسّ جوهر معضلة العلاقة بين الإنسان المسلم وتراثه وبين النص وتأويله وبين الدين وتاريخ تلقيه فالقضية هنا أعمق من مجرد تصحيح سند حديث أو استبدال رواية بأخرى المسألة تتصل بمسار طويل من بناء مفاهيم الهوية والحق والباطل والفرقة الناجية والفرقة الهالكة وهي مفاهيم لم تعد مجرد اجتهادات نظرية بل أصبحت منظومات تصوغ السلوك وتنتج مواقف الإدانة والقبول وتبني شبكات الولاء والبراء.

من هنا فإن إعادة تأطير هذا النقاش وفتح أبواب الاجتهاد في فهم هذه النصوص ليس ترفًا أكاديميًا ولا ترفًا معرفيًا بل هو جزء من معركة الوعي الإسلامي المعاصر معركة تحرير العقل المسلم من قيد الأصنام الذهنية التي صنعها التراكم التاريخي والتي تحول النصوص إلى سلاسل تغلق منافذ الرحمة وتخنق هواء التعارف والتعايش.

هذا هو الأفق الذي تحركت فيه الندوة والذي سنحاول في هذا التقرير تتبعه عبر محاوره الثلاثة التي ستقف عند إشكالية ثبوت السند ومأزق العد الزمني للفرق ثم عند قدسية الاجتهاد البشري وتحوله إلى سلطة أيديولوجية وأخيرًا عند الحاجة إلى تأويل مقاصدي مسؤول يحرر النجاة من أوهام الحصرية ويعيد بناء العلاقة مع النص على أساس أخلاقي إنساني جامع.

المصدر: دين برس