كاتب سعودي مهتم بقضايا الفكر والفلسفة والحريات وحقوق الإنسان
في السعودية هناك سؤال مؤرق يطارد كثيرا من المشتغلين بالفلسفة، وهو: لماذا الفلسفة؟ وكأن الفلسفة مطالبة بتبرير وجودها. شخصيا أقبل هذا السؤال وأعتقد أن كل علم مطالب بتبرير وجوده. التبرير الذي أعنيه هنا هو ما يكشف حضور الآخر في اشتغال الذات. أعني بذلك أن يكون للعلم بعد جماعي ولا يعبر عن اشتغال أناني. شخصيا أعتقد أن أحد القيم الأساسية في البحث الفلسفي هي قيمة الاشتغال بالأخلاق. في جمهورية أفلاطون يحضر سؤال ما العدالة كسؤال محوري للمحاورة. ما العدل؟ ما الحق وما الخير؟ كان سقراط يريد فتح هذه الأسئلة في بيئة مشبعة بالإجابات. يتميز المبحث الأخلاقي أنه مشغول بمجال لا يحتمل اللاأدرية. المجال الأخلاقي مجال عملي مرتبط بالإرادة بشكل مباشر. في كل يوم يتخذ الإنسان بالضرورة قرارات ومواقف تتعلق بعلاقته بالآخرين. هذه القرارات لا يمكن تجنبها، فهي جزء من ضرورات الحياة، وبالتالي فلا مفر من سؤال الأخلاق، كما أن الساحة الاجتماعية لا يمكن أن تخلو من الإجابات المتعلقة بأسئلة الأخلاق. سقراط كان يريد مقاومة الإجابات السائدة وآثارها على الناس من خلال الفلسفة، من خلال البحث الفلسفي المشغول بالتصورات الأولية للمفاهيم والعلاقات التي تربط الأفكار. كل مجتمع مليء بالضرورة بالأطروحات الأخلاقية أو الأطروحات التي تجيب عن الأسئلة الأخلاقية. بعض المجتمعات تستقي أجوبتها من الدين، البعض الآخر من التقاليد المتوارثة من التجربة المعيشية، البعض من العلم وهكذا.
الأكيد أن المساحة الأخلاقية لا يمكن أن تكون فارغة. السؤال هنا ما موقفنا من جملة الإجابات الأخلاقية التي يتحرك من خلالها الناس؟ سقراط وتقريبا كل فيلسوف بعده بمن فيهم نيتشه كان يعتقد أن موقفنا الصحيح هو مساءلة الأطروحات الأخلاقية فلسفيا. أي بمتابعة أو مطاردة تلك الإجابات فلسفيا: بالبحث في مدى صحة منطلقاتها الأولى، مدى اتساقها، مدى قدرتها على توفير العدالة، مدى قدرتها على التفاعل مع عالم يتم إمداده يوميا بمعلومات جديدة عن الإنسان وعن الطبيعة. في الجمهورية يسأل سقراط ما العدالة؟ ويأتيه الجواب الأول: العدالة هي القيام بواجباتك كما يحددها القانون وأن تكون أمينا. سقراط يتولى مهمته الفلسفية ويجادل بالمثال التالي ليربك التعريف المقترح: ماذا عن إعادة قطعة سلاح استعرتها من رجل هو الآن غاضب ويريد أن ينتقم من أحدهم: أليس هذا حقه كما يأمر القانون؟ أليست هذه هي الأمانة؟ يضيف سقراط: ولكن ألست بهذه الطريقة أعينه على القتل؟ هذا النقد يدفع بالسؤال للمرحلة التالية: يأتي سقراط هذا الجواب من أحد الشبان: العدالة هو أن تساعد الصديق وأن تؤذي العدو. سقراط يؤشكل هذا الجواب من الإحالة على هذه الواقعة الإمبيريقية: نحن لا ننجح دائما في اختيار الصديق الحقيقي ولا العدو الحقيقي. أحيانا نتفاجأ بأن من كنا نظنه عدوا ليس في الحقيقة إلا صديقا، ومن نظنه صديقا ليس في الحقيقة إلا عدوا. لو أخذنا بالتعريف السابق لكانت العدالة أن نساعد من نظنه صديقا وهو في الحقيقة عدو، ونؤذي من نظنه عدوا وهو في الحقيقة صديق. يستمر سقراط في هذه المهمة مسائلا كل تعريفات العدالة المطروحة في مجتمعه، ويختم بمفهومه الخاص للعدالة. هذه المهمة يجب أن تستمر وإلا وقعنا بما يسميه جون ديوي بالمغالطة الفلسفية. المغالطة الفلسفية عند ديوي تعني انفصال الفكرة عن برهانها، أي أن الأفكار التي تطرح كإجابة عن مشاكل معينة وواقع معين تتعالى على هذا الواقع مع الوقت، ويتم تبنيها خارج هذا السياق. على سبيل المثال يقدم لنا أرسطو مقولاته الشهيرة التي يفترض أن تحد كل أنواع الأشياء التي يمكن أن توجد. المشكلة بحسب ديوي تكمن في أن تتحول المقولات الأرسطية إلى حكم على الواقع بدلا من أن نعيدها للواقع ليحكم عليها. المهمة الأخيرة هي همهمة التفلسف عند ديوي: إعادة التفكير في مقولاتنا الأولى من خلال الخبرة والتجربة.
الأطروحات الأخلاقية أكثر عرضة للحماية من النقد من المقولات الميتافيزيقية باعتبارها أقرب للرموز والطقوس التي عادة ما يعبر الناس فيها عن وحدتهم واعتزازهم ومكانتهم، لكننا نعلم أن تصوراتنا عن الأخلاق قد تكون لا أخلاقية، قد تكون تأسست على مفاهيم تتعارض مع قيم إنسانية نعتقد أنها أساس الأخلاق كقيم الحرية والمساواة. بحسب محمد عابد الجابري فإن المبحث الأخلاقي هو من أفقر المباحث في الأطروحات الفكرية المكتوبة باللغة العربية منذ القدم. حاولت كثيرا البحث عن كتب عن العدالة في التراث المكتوب بالعربية فلم أجد. هذا الفقر يعني أن السؤال الأخلاقي لا يزال مغلقا ولا بد من فتحه. فتح هذا السؤال مهمة فلسفية، خصوصا في حقبة تاريخية تشهد فشلا أخلاقيا مرعبا يتمثل في غلبة منطق العنف والصراع والعداوة بين المختلفين على المستوى السياسي والديني. في الختام لا بد من إيضاح فكرة أساسية فيما يتعلق بمبحث الأخلاق. هناك تصور للأخلاق يعني بها مجموعة من التعاليم والتوجيهات تحدد للإنسان كيف يعيش. ليس هذا هو المعنى المقصود في مداخلتي هنا. ما أعنيه بالأخلاق هو حالة الخروج من الأنانية وحضور الآخر. أي أن يفكر الإنسان في الآخر حين يتصرف. اللاأخلاقي هنا ليس من يختار نمطا من العيش لا يناسبنا أو يمارس سلوكا لا يتوافق من تصوراتنا، بل اللاأخلاقي هو الأناني الذي يتصرف في هذا العالم وكأنه يعيش لوحده: الأناني لا يحضر الآخر في تفكيره إلا كأداة للدعوة أو الاستعمال. لذا فإن مهمة الفلسفة الأخلاقية هي إعادة الآخر للحضور ليس لاستعماله، لكن للاستماع له ولاستضافته.
المصدر: الوطن