كاتب لبناني
فيما كان الإتحاد السوفياتي منغلًقا على نفسه٬ خلف ما سمي “الستار الحديدي”٬ ملأت أميركا العالم بالأفلام والممثلين٬ يرّوجون لـ”نهجنا في الحياة”. الشيوعية السوفياتية لم تسقط بالمدافع والصواريخ٬ بل بـ”طريقة الحياة”. اكتشف الأميركيون في الحرب الباردة أن “القوة الناعمة” أكثر فعالية أحياًنا من حروبهم العسكرية حول العالم.
بعض المفكرين قال إن القوة الناعمة هي التي غيرت المجتمع الأميركي من الداخل أيًضا٬ أو بالأحرى “القوة الناغمة”. أغنية مايكل جاكسون “أسود وأبيض” بيع منها نصف مليار شريط. كلماتها تقول: “ليس مهًما أن تكون أسود أو أبيض”. فأنت أولاً إنسان. ثم امرأة أو رجل. ثم أسود أو أبيض.
يقول الكاتب المصري إبراهيم الجارحي٬ في دفاعه عن نظرية خسوف القومية العربية من دون مد مصري: “كان عبد الناصر يتكلم من فوق برج مشيد من أصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ٬ ومن موسيقى محمد فوزي والموجي وبليغ حمدي والطويل وغيرهم٬ وأشعار صلاح جاهين وأمل دنقل والأبنودي وغيرهم٬ ومن سينما صلاح أبو سيف٬ وأدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس٬ ومسرح المهندس ومدبولي٬ وغير ذلك كله من الأدوات التي غزا بها محيطه الإقليمّي”.
سواء كنت تؤيد هذه النظرية أم لا٬ لا يمكننا أن نقارن أثر القوة المصرية الناعمة في تلك المرحلة بالأثر الذي تركته القوة العسكرية في اليمن. أو إذا أخذنا بلًدا صغيًرا مثل لبنان٬ نجد أن كل حِّيزه الوجودي في العالم العربي حتى أقصى المغرب٬ قام على قوته الناعمة: في جبال الأطلس٬ يصغون إلى صوت فيروز كل يوم٬ ويقرأون صحيفة أو كتاًبا آتًيا من لبنان. والتي أثارت حماسة الشعب العربي في كل مكان كانت الأناشيد المصرية.
ثمة مرحلة كانت فيها مصر في كل بيت عربي تقريًبا٬ من دون استثناء: أحاديث الشيخ الشعراوي٬ أو من جانب آخر صوت أم كلثوم٬ أو صورة فاتن حمامة٬ أو ألحان السنباطي٬ أو روايات يوسف إدريس٬ أو كاريكاتير “صباح الخير”٬ أو أحاديث طه حسين٬ أو ضحكات المسرح في زمن لا يزال فرًحا. بتلك القوة الناعمة٬ تجاوزت مصر جميع الدول العربية٬ وأصبحت لهجتها العامية لغة التفاهم بين الجميع. والمؤسف أن هذا التفوق قد تراجع الآن٬ ولكن من دون بديل عربي. الكليبات ليست عصًرا بديلاً.
المصدر: الشرق الأوسط