بعد أن اختفت ظاهرة الكتابة على الجدران لسنوات عدة، باتت في الآونة الأخيرة تمد أيديها دون استحياء لتطال جدران المنازل والمرافق العامة، بوتيرة متصاعدة وفي أماكن مختلفة، ليستيقظ سكان المدينة على جدارية مشوهة بالألفاظ والرسوم الغرائبية في الشكل والمضمون، وكأنها تلهث وراء تفريغ شحنة نفسية بطاقة مهدرة يغلفها إهمال أولياء الأمور وغفلة المنظومة التعليمية عن البحث والتدقيق.
عوامل نفسية
وفي هذا السياق يرى سالم الجلاف أن ظاهرة الكتابة على الجدران من قبل المراهقين جديرة بالدراسة، لأنها إضافة إلى كونها تشوه جمال الممتلكات الخاصة والعامة، وتتعدى عليها، فإنها تعدُّ سلوكاً سيئاً يطيح بتناسق ونظافة المدن، ويجعلها غارقة في الفوضى. لكن هذا السلوك لم يأت من فراغ، يقول الجلاف، وإنما هناك عوامل كثيرة ومتعددة تسببت به، ربما تكون ظاهرة للاكتشاف العديد من المشاكل النفسية التي قد تدفع بالمراهقين إلى ارتكاب مثل هذا التعبير الذي يصنفه البعض بالمتوتر، خاصة وأنه يطرح عبارات وأفكاراً قد تكون غير لائقة، قد تعد تفريغاً لشحنات سالبة مكبوتة، لكنها أي الكتابة على الجدران تبدو انتقامية، إذا جاءت في سياق لفت نظر الآخرين أو تشويه سمعة الغير.
تأثير سلبي
وتؤكد سمية البدري أن تقليد تلك الأفعال من قبل المراهقين وانتشارها في مناطق مختلفة، قد يكون لها تأثير سلبي على الأطفال الذين يطالعون أثناء وجودهم داخل مركبات أولياء أمورهم بعض العبارات غير اللائقة التي يجدونها على الجدران. وأضافت: لاحقاً ربما يلجؤون إلى التعبير عن أنفسهم بهذه الطريقة خاصة الأطفال الذين لا يمنحون فرصة للتعبير عما يريدون، ويمارس عليهم نوعاً من الكبت، وترى أن على الأمهات أن يمنحن أطفالهن حرية التعبير حتى يساعدنهم في النمو الذهني والنفسي السويين للطفل، فلا يفكروا في تشويه الجدران بما يجول في دواخلهم.
أنماط متعددة
وتضيف: إن الكثير من الكتابات على الجدران التي شاهدتها أخيراً تتخذ أنماطاً متعددة ذات خلفيات متباينة، فبعضهم يكتبون عبارات مرتبطة بمناسبات وأعياد، وفريق ينزع نحو كتابة الأقوال والعبارات الخالدة كالحِكم والأمثال وأقوال المفكرين والعلماء، وبعضهم يتورط في كتابه العبارات النابية والشتائم التي قد تشكل صدمة حقيقية لسكان المنطقة أو الشارع، حيث يباشرون الكتابة والرسم لقناعتهم أن الناس بالرغم من تجوالهم في هذه الأماكن لن يتعرفوا عليهم. وهي من وجهة نظري، تقول سمية، سلوكيات شاذة للحد البعيد، عن طبيعة مجتمعنا، وأفضل علاج لهذه الظاهرة هو تدخل الاختصاصي النفسي لتعديل السلوك باستخدام خطة علاجية، وتبديلها بسلوك حسن.
ظاهرة غير سوية
وتقول جنان مرتضى: إن ما يزيد من حجم المشكلة وجود عبارات خارجة وخادشة للحياء بين هذه الكتابات، الأمر الذي يتطلّب وضع كاميرات مراقبة لرصد أي شخص يقوم بالكتابة على جدران مؤسسات الدولة والمدارس، فذلك سلوك غير متحضّر على الإطلاق، وهناك الكثير من البيوت التي تشوهت من الخارج بكتابات وخطوط لا تليق بمظهر الحي أو البلاد، ويجب معاقبة كل من يثبت تورطه في مثل هذه الأعمال الصبيانية لمجرد لفت انتباه المارة بمكان ورشهم وكأن هذه الكتابة علامات استدلالية، وهذا سلوك غير مهذب على الإطلاق، يستوجب معاقبة الأيادي التي تلوث مظهر الأبنية بهذا الشكل غير اللائق.
دور المدرسة
وتضيف: إن الكتابة على جدران المدارس من قبل المراهقين توضح أن هناك خللاً واضحاً في سلوكياتهم فهي غير مقتصرة فقط على أسوار المدارس بل منتشرة في بعض المناطق السكنية، لافتة إلى أن المدرسة يمكن أن تلعب دوراً رائداً في الارتقاء بأخلاقيات الطلاب والطالبات عن طريق التنبيه عليهم في طابور الصباح بعدم الكتابة على الجدران، كما يمكن للمدرسة أن تكافئ الطالب الذي يبلّغ الإدارة عن كتابات على الحائط أو داخل دورات مياه المدارس.
عقاب حازم
ويرى محمد عبد الصمد أن الكتابة على الجدران بشكل عام تدلّ على أن هناك سلوكاً نفسياً غير سوي للإنسان الذي يعبر عن مشاعره على الجدران، كما أن الطالب الفاشل يفرغ إهانته من المدرسة ومن والديه في كتابة عبارات غير لائقة على أسوار المدارس. وفي المقابل أعتقد أن السلوكيات الخطأ يمكن معالجتها بسهولة، فالإنسان العادي عندما يعلم أنه سوف يعاقب بحزم في حال تورطه في كتابة هذه العبارات فمن الطبيعي أنه سوف يرتدع ويترك هذا السلوك بعض الشيء، مفيداً أن الأسرة عليها أن تحفز أبناءها على السلوكيات المستقيمة حتى لا يرتكبوا أي سلوكيات ضارة.
حروف متمردة
وحول انتشار تلك الظاهرة مجدداً أوضح محمد: يعلم المراهقون تماماً أن ممارسة الكتابة على الجدران هو سلوك سيئ ويعتبرون ذلك نوعاً من التنفيس عما يدور بخاطرهم، والبعض الآخر يرى فيه نوعاً من التواجد ومحاولة للفت النظر إليه، مشيرا إلى أن تلك الكتابات والرسوم تمتد إلى الشوارع والأزقة الضيقة في العديد من المناطق، حيث يقوم المراهقون بعمل رسومات أو رش ألوان على شكل كتابات، وهي رسالة قد تحمل نوعاً من الخواطر أو كتابة الأسماء أو تعبر عن التمرد على شيء ما، وهي سلوكيات منبوذة لا يرضى عنها المجتمع، مشيراً إلى أن من يقومون بهذه الأفعال مشوشون في تفكيرهم وسلوكياتهم وتوضح مدى ما يعانونه من اضطرابات سلوكية خطيرة.
المظهر العام
وأوضحت حسناء رشيد أن هذه الظاهرة سيئة جداً ويجب محاربتها والقضاء عليها بوسائل عدة من أهمها الحرص على تنشئة الأطفال تنشئة سليمة والتوجيه التربوي، إضافة إلى العقوبات الضرورية إذا اقتضى الأمر وضع تلك العقوبات على مرتكبي هذا السلوك غير الحضاري؛ لأنه سلوك لا يسيء لفاعله فقط، وإنما يسيء إلى الجميع ويوقع ضرراً كبيراً على المظهر العام والمجتمع وعلى الوجه الحضاري للمدن التي يجب أن تكون على المستوى الذي ننشده جميعاً. كما انتقدت قيام بعض المواطنين أو المقيمين بكتابة عبارات ممنوع الوقوف أو انتظار السيارات أمام منازلهم، مشيراً إلى أن تلك العبارات تندرج أيضاً تحت مسمى الكتابة المسيئة على الجدران، لأنها تشوِّه المنظر العام، وتمثل اعتداء صارخاً على ممتلكات الغير ويعاقب عليها القانون، وأنه يجب إقناع هؤلاء أن مواهبهم أو سلوكهم التي يريدون التعبير عنها يمكن أن يجدوا لها مكاناً على صفحات دفاترهم.
حقوق الآخرين
ويرى طاهر حسين أن الظاهرة ناتجة عن اضطراب سلوكي لدى من يقوم بهذا الفعل، وهو ما يدفع البعض للقيام بهذا السلوك، مؤكداً أن المنظر العام يكون سيئاً وأن الكتابة على الجدران تمثل شكلاً غير تربوي وغير أخلاقي وأنه من العيب على مجتمعنا أن يحتوي على مثل تلك الظواهر الغريبة السيئة، وأن الكثير منها خادشة للحياء يضر المجتمع ويجعلنا نشمئز من فعلته. وقال: في كل الأحوال من يفعل ذلك فهو إنسان غير سوي.
ويضيف : إن من يكتبون على جدران البيوت والجدران يرتكبون جريمة التعدي على أملاك الغير وهي جريمة لا يمكن الصمت أمامها وللأسف كل الكتابات التي تكتب على جدران تلك البيوت لا تخلو من تعصب لشيء ما كالنادي الذي يحبه أو غيرها من الأشكال التي يمكن أن توقع الشخص تحت المسؤولية نتيجة تعديه على حقوق وأملاك غيره، وهو سلوك مشوه للمنظر العام.
فعلٌ يدفع إلى مزيد من السلبية
أظهرت دراسة عالمية حديثة أن الرسم على جدران الشوارع يؤثر بشكل سلبي في سلوك الأفراد. واتضح من خلال الدراسة الميدانية التي أجراها علماء من جامعة جرونينجن في هولندا أن وجود الرسوم على جدران الشوارع يزيد من استعداد الأشخاص لمخالفة النظام بشكل كبير، وجاء في الدراسة التي نشرتها مجلة ساينس الأميركية العلمية أن عدد الأشخاص الذين يلقون القمامة في الشارع أو يسرقون يرتفع إلى أكثر من الضعف في الشوارع المشوهة جدرانها بالنقوش أو الرسوم، وأشارت الدراسة إلى أن استعداد الأشخاص لمخالفة القوانين يرتفع حينما يلاحظون أن هناك قواعد أخرى تنتهك مثل الرسم على الجدران، وتؤكد هذه الدراسة نظرية تعرف باسم «النوافذ المكسورة» التي تذهب إلى أن وجود زجاج مكسور أو نقش أو رسم على الجدران أو قمامة الأحياء يزيد من استعداد الأفراد لارتكاب المخالفات.
برامج وقائية للارتقاء بالسلوك
رأى أولياء أمور ضرورة مبادرة المدارس بمجموعة برامج وقائية وتوفير آليات علاجية للطلبة والمراهقين، للحد من سلبية هذه الظاهرة على الفرد والمجتمع، باعتبار أن الفعل التربوي يجب أن يسبق الضبط الإجرائي في مثل هذه الحالات، فالمؤسسات التربوية والتعلمية مهمتها الأساسية تربية الأجيال وإعدادهم شخصياً واجتماعياً. وأكدوا أن هذه الظاهرة من الظواهر التي اهتمت لائحة الانضباط السلوكي بعلاج آثارها السلبية، وهنا لا بد من تفعيل إجراءات اللائحة بعد استنفاد كامل الوسائل التربوية لتصبح جزءاً من علاج الحالات التي يرى المربون أنه لا يمكن تقويمها إلا بمثل هذه الوسائل، التي تفصح عن صعوبة بالغة في التعبير عن خبايا الذات، وذلك إما لعدم القدرة على التعبير اللفظي أو للخوف من السلطة المدرسية، لأن ما يريد الطالب التعبير عنه لا يتوافق مع السياق العام للقيم المدرسية والمجتمعية.
المصدر: البيان