كاتب متخصص في الإدارة
لا يكاد يخلو اجتماع مجلس إدارة في العالم، ولا في وزارة وبرلمان ومؤسسة رفيعة، من محاضر اجتماعات يدون فيها حيثيات اللقاء وقراراته.
وذلك لسبب بسيط، وهو أن الناس حينما «يقع الفأس بالرأس»، تتهرب من المسؤولية أو تكذب أو تحور كلامها. وقد رأيت ذات مرة، كيف تمعرت وجوه المشاركين في لجنة رفيعة كنا نناقش فيها قضية بالغة الأهمية، كُلفنا بها، وكان سيتمخض عن النقاش قرارات وتوصيات ترفع لجهات عليا. هذا التردد يحدث في كل مكان.
، حينما يشاهد مشارك غير واثق من نفسه أو غير مستعد أصلاً للاجتماع، آلة التسجيل وهي تدور لتدون ماذا يجري في الاجتماع.
وأخطر ما في هذا الأمر، حينما ينفي أحدٌ ما قاله بالفعل. من هنا، جاءت فكرة توقيع المتهم على محاضر التحقيقات المكتوبة، وكذلك التصديق على محضر الاجتماع في الجلسة التالية. وهذه مسألة مهمة، لأنه اتضح فعلياً أن الناس تكذب في النقاش الشفهي، أكثر بأضعاف المكتوب.
فعندما طلب الباحث في شؤون الاتصال بجامعة كورنيل العريقة جيف هانكوك من مجموعة من المشاركين في دراسته بأن يدونوا، بطريقة علمية، لمدة أسبوع، ما يجري من كذب في محادثاتهم. فتبين له أن الآخرين قد كذبوا عليهم بنسبة 14 في المئة عبر البريد الإلكتروني، و21 في المئة عبر دردشات الرسائل النصية القصيرة، و27 في المئة عبر النقاش الشفهي، ونحو 37 في المئة عبر المحادثات الهاتفية.
ولا غرابة أن يتضاعف الكذب حينما يتعلق الأمر بالمال أو السياسة أو النفوذ. وهذا ما اعترف به أحد أشهر الزعماء في القرن العشرين، رئيس وزراء بريطانيا، ونستون تشرشل، عندما قال إن «الحقيقة غالية جداً، ولذا يجب أن نحميها بجيوش من الأكاذيب».
مشكلتنا كعرب، أننا أمة شفهية، ترعرعت على الحديث الشفهي، بل ويستهويها منذ الأزل، وهذا ما يمكن التهرب منه بسهولة. ولذا، حينما تطلب من أحد المتكلمين أن يكتب ما اقترحه أو قاله، يشعر بنوع من الإهانة أو عدم الثقة به، أو يعتقد بأنك لا تحاول سوى تصيد أخطائه!
وهو أمر غير صحيح إطلاقاً، فتدوين وقائع النقاش في العمل الجماعي المنظم، هي أرقى صور التواصل المهني، ويراكم أرشيفاً مهماً، يسهل الرجوع إليه في أي لحظة، ليكون رافداً لقرارات اللجان، ودليلاً يحفظ حقوق وواجبات المشاركين.
وأرى أن كتابة الفرد لمقترحه أو مشروعه، هو بحد ذاته ترمومتر لقياس جدية صاحب الفكرة. ففي بعض الأحيان، تكون الفكرة مسروقة نصياً من زميل آخر، لكن الكتابة تجعل صاحبها يحمل وزر كذبته، وتجعله أكثر مسؤولية عما يقترح. وهذا يذكرني بطرافة الفيلسوف نيتشه حينما قال: «لست منزعجاً لأنك كذبت عليّ، لكنني منزعج لأنني لن أصدقك بعد هذه المرة»!
المصدر: البيان