كاتب وأكاديمي سعودي
اللحظة الكونية مصطلح جديد بدأ في الظهور ، و هو بمثابة وصف دقيق يجسد العصر الذي نعيش فيه، وقد توقفت عند المصطلح كثيراً في مايو / أيار الماضي عندما أطلقه رئيس مجلس إدارة «سكاي نيوز عربية» الدكتور سلطان أحمد الجابر في كلمته التي ألقاها خلال حفل تدشين القناة ، تأملت المصطلح الجديد فوجدته يجسد الحالة بالفعل، فلم يعد مصطلح القرية الكونية بليغاً ودقيقاً بالقدر الكافي ليصف حالة هذا الانتقال الذي نعيشه بين الأزمنة الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل ، تدفق معلوماتي زاخر و سرعة هائلة في نقل المعلومة والحقيقة و الخبر ، تتعدد الوسائط وتصبح عصب الحياة لإنسان القرن الحادي والعشرين، فمصطلح القرية الكونية وإن حمل في طياته إيحاءاتٍ بالتقارب والتضاؤل إلا أنه يظل تقارباً وتضاؤلاً محدوداً مع بقاء الفوارق المكانية والزمانية قائمة ، لكن الحاصل اليوم هو أبعد من ذلك بكثير ، ما نشهده هو العيش في قلب الحدث والتفاعل معه وربما التأثير فيه ، ياله من عصر يتطلب إنساناً جديداً بقدرات متنامية و وعي مختلف ، لا يمكن لإنسان قد اعتاد الرتابة والنمطية في شؤون حياته أن يتعايش مع عالمٍ متجدد من المعلومات و الحقائق والحوادث والأخبار يتم تحديثها تلقائياً أمام عينيه في كل جزء من الثانية ، وأمام كل ذلك فسنحتاج جميعاً إلى اتخاذ قرار حاسم جريء ، يتضمن القدرة على التحكم في توطين ذواتنا وجدولة أوقاتنا وأعمالنا واهتماماتنا ، و فلترة وتصنيف وترتيب ما نتعرض له وما يُعرض علينا في كل لحظة كونية ، عدا ذاك ، فسنجد أنفسنا إما غارقين في خضم بحر معلوماتي هائل تائهين ضالين لا نكاد نمسك بخيط رفيع من هذا إلا و قد باغتنا ذاك ، وإما أن ننصرف ونولي ظهورنا متجاهلين سمات هذا العصر ، وعندها سنكون قد حكمنا على أنفسنا بعزلة اختيارية عن محيطنا وبيئتنا وغربة ثقافية عن أحوال عالمنا ومتغيراته .
وإنه لمن حسن الحظ بأن كل تقنية جديدة تحمل لمستخدمها هامشاً واسعاً من خيارات فرض الخصوصية والانتقائية من أجل التحكم فيما يريد وما لا يريد ، واختيار ما يرغب ومالا يرغب ، والموازنة بين المهم والأكثر أهمية ، لسنا بحال من الأحوال مجبرين على التحول إلى أوعية بشرية تستقبل هذا الضخ الهائل حتى حين نتقلب في سررنا قبل النوم أو بمجرد استيقاظنا صباحاً ، رسالة بريد الكتروني أو تغريدة طازجة أو عنوان إخباري أو حتى “برودكاست” ، قد لا تكون بداية أو نهاية موفقة ليومك ، ربما حكايا الضحى والسمر مع أحد والديك أو حديث ودي مع شريك حياتك أو قصة جميلة ترويها لابنك أو لحظة تفكير وسكون روحي مع ذاتك ، قد تكون أجدى و أكثر طمأنينة في ثنايا وتفاصيل يومك ، إن الخوف قد ينتابنا نحن الكبار خصوصاً حين نشعر بأن خيوط الوصال مع أقرب الناس إلينا قد باتت تتلاشى ، وبأن علاقاتنا بأبنائنا تقع تحت سيطرة شبكة الانترنت المنزلية أكثر من سيطرتنا ، وبأن أسعد لحظاتنا وأكثرها حميمية تتم مصادرتها من بين أيدينا قسراً ويتم اقتحامها عنوةً من قبل الوسائط الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي والأقنية الإخبارية على اختلافها ، عندها سنكون فعلياً قد وقعنا أسر عصر اللحظة الكونية ، و يبقى القرار بأيدينا نحن قبل فوات الأوان !!
خاص لـ ( الهتلان بوست )