خاص لـ هات بوست:
أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في محافل عدة على أهمية اللغة العربية، وضرورة الاعتزاز بها، وغرسها في نفوس الأجيال، وتطوير مناهج تعليمها، لتظل لغة قادرة على مواكبة العلوم والتقنية، وحاضرة في ميادين الإبداع والابتكار، وألمح إلى أنها ذاكرة الوجود ومرآة الكينونة مصرحاً بأن:” اللغة العربية هي أداة رئيسة لتعزيز هويتنا الوطنية لدى أجيالنا القادمة، لأنها المعبرة عن قيمنا وثقافتنا وتميزنا التاريخي“، وعمّق المسؤولية حين تجاوز في حديثه حدود الخطابة إلى استحضار بعدها الوجودي حين قال:إن “لغتنا العربية لغة حية غنية، نابضة بالحياة، بقيت محافظة على أصالتها لأكثر من 2000 عام، وتتميز بقدرتها على مواكبة الحاضر والمستقبل، والإسهام في الحفاظ على اللغة العربية هو قيمة إسلامية، وفريضة وطنية، وترسيخ لهويتنا وجذورنا التاريخية”، وفي توجيهه هذا يُلمح سموه إلى أن اللغة ليست انعكاساً للوعي فحسب، بل هي شرط إمكانه.
من تلك المنطلقات التي وضعها سموه، وحرص على تأكيدها مراراً يمكن القول بأن اللغة أيا كانت تستطيع أن تكوّن هوية الإنسان، فهي الوعاء الذي من خلاله تنطقُ مكوناته التعبيرية عما يجول في ذهنه من أفكار، وما يخطر في قلبه من مشاعر، وهي الشكل الخارجي الذي يحتمل مدلولات ذلك وإشاراته بشكل لافت للأنظار، خالب للألباب، معبّر عن نغمية الروح، وجمال التصور، وفردانية التقدير، ولعلّ اللغة العربية واحدة من اللغات التي تمتلك تلك القدرات في تشكيل هوية الإنسان، بل إنها تملك أدوات التعبير عن هوية عالية رفيعة إذ اقترنت بكلام الله تعالى، وصارت دلالة إشاريةً على أمة ممتدة عبر التأريخ تدين بهوية عربية إسلامية، وإذا كانت اللغة العربية تملك قدرات التشكيل لهوية الناطقين بها، فإنها ليست في موقع الانفصال عنهم، ولا يمكن أن تكون مؤدية لهذا الدور، فاعلة في هذا الامتلاك للأدوات الممثلة للهوية العربية والإسلامية إلا إذا تمثلها أصحابها في حياتهم واقعا معاشا، لا مجرد أنساق كتابية تحتفل بها دور الثقافة ومعاهد الطلاب، والجامعات ومؤسسات البحث العلمي، بل يجب أن تكون هذه اللغة العربية جارية مجرى الواقع في حياة الناس وتداولاتهم اليومية، ويجب أن تكون هذه اللغة العربية متماسة مع الاحتياجات المستمرة لأفراد المجتمع، ومتعاطية مع التغيرات الناشئة أو الطارئة في حياتهم، لا يجب أن تكون هذه اللغة العربية غريبة كصالحٍ في ثمود .
إن مسؤوليتنا الفردية والمجتمعية تفرض علينا أن نتعامل مع العربية على أنها صالحةٌ لتكون أسلوب حياة عصري، متفاعل، متوائم، سلس، قادر على التطور والتغيّر، صالح للعيش تحت كل الظروف، وهذا يفرضُ واجبا على المختصين في علوم العربية المتعددة خصوصا في مجال اللغويات واللسانيات أن ينظروا إلى اللغة بوصفها كائنا حيّا يتطور بالتغذية والعناية والرعاية، لا مجرد جوامد لفظية، أو مسكوكات تعبيرية، أو قواعد صلدة، أو منطقيات صرفة، بل ينظرون إليها على أنها وسيلة، وأداة، ووعاء. يجب أن يتشكل بطرائق تتناسب مع العصر والواقع والمتغيرات، كما أنّ هذا يفرض على عموم الناس وعامتهم أن يحاولوا الارتقاء في طرائق التعبير عن السوقيات المبتذلةِ، والنحت المفسد نتيجة تهجين اللغة مع اللغات الوافدة.
إن المجال أمامهم لتطبيق اللغة العربية السهلة الواضحة التي لا يعيبها خلوُّها من التقعيد والتعقيد والإغراب، لكنها تلتزم المفردة العربية الواضحة التي تعبر عن معنىً واضح، وبهذا يكون العربي عربيّ اليد واللسان حقيقة وواقعا، و-هنا- فقط تصبح العربية في موقع الوسط بين التناول العلمي المتخصص، والإهمال الشعبوي المفرّط لتتخلّق أمامنا حالة من اللغة الظاهرة على صعوبات مفتعلة، ومصدّاتٍ غير حقيقة، لينطلق الناس أفرادا ومجتمعات للتفاعل فيما بينهم بهذه اللغة الوسط في مدخلاتها اللغوية، ومخرجاتها التعبيرية، ومساراتها التداولية، لتشكل أسلوب حياة لغويّ يصلح للاستعمال الدائم غير المنقطع، ويصلح للتماهي مع متغيرات الحياة المتسارعة، ويعطي تسامحا لغويا ينشأُ من خلاله نموّ صالح في العلاقات الإنسانية، وتصبحُ اللغة المحكية في تداولات الناس ناطقةً بهوياتهم العربية بواقعية فريدة، ومعبّرة عن أسلوبهم الحيوي الأخاذ.
إنّ مقاربة اللغة العربية بوصفها كياناً حياً يتفاعل مع محيطه، ويمارس أدواراً تتجاوز حدود التعبير الفردي إلى صناعة الهوية الجمعية، تضعنا أمام مسؤولية علمية ومجتمعية كبرى، فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي نسق معرفي وثقافي متكامل، يُعيد تشكيل أنماط التفكير، ويوجه طرائق التمثّل والإدراك، ويؤسس لرؤية إنسانية وحضارية ممتدة، ومن -هنا- تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في المناهج التعليمية، والمقاربات اللسانية، والسياسات اللغوية، بما يجعل العربية قادرة على أن تكون لغة معاصرة في الاقتصاد والمعرفة، والتقنية، والإبداع الفني، والأدبي.
إنّ استعادة العربية لدورها الحضاري لا يتحقق عبر الخطاب الاحتفالي أو الرمزي فحسب، وإنما عبر إدماجها في بنية الحياة اليومية، وربطها بحاجات المجتمع، وتحريرها من الغربة المصطنعة التي تفصلها عن الناس، وهذا يستدعي العمل على مستويات متعددة: أولها المستوى الأكاديمي الذي يُعنى بالبحث في آليات التطوير، والتقعيد المرن، والتوظيف الحيّ للمعجم العربي، وثانيها المستوى المجتمعي الذي يُحمّل الأفراد مسؤولية الحفاظ على نقاء اللغة مع تبسيطها وإتاحتها للجميع، وثالثها المستوى المؤسسي الذي يتجسد في السياسات الرسمية القادرة على جعل العربية لغة العمل والإنتاج والمعرفة.
هذه الرؤية التكاملية من شأنها أن تجعل العربية لغة حيّة، غير متحجرة ولا مائعة، قادرة على التجدّد دون أن تفقد أصالتها، وعلى التكيف دون أن تتنازل عن هويتها.
وبهذا المعنى تغدو العربية ليس فقط وعاءً للهوية، بل قوةً مولدة لها، وركيزةً في بناء الشخصية العربية الإسلامية التي تواجه تحديات العولمة والانفتاح الثقافي بوعي راسخ، وإبداع متجدد، وانفتاح عقلاني يوازن بين الانتماء والحداثة.