كاتب سعودي
أثارت الطالبة أميرة النموشي الجدل في تونس، بعد أن حصدت معدل 20 من 20 في اختبار البكالوريا بمادة الفلسفة، الفتاة ابنة التسعة عشر ربيعاً اجتازت الامتحان بعد أن كتبت ست عشرة صفحة بظرف أربع ساعاتٍ، وقد شاهدتُ عدداً من اللقاءات التي أجريت معها ومع عائلتها، من الواضح أنها نشأت على المطالعة والسؤال، وقد اتضح ذلك من نصها الذي نشر في الصحف والمجلات، وأخذ أصداءه المستحقة نسبة إلى سنّ الطالبة، والظرف الذي هو امتحان تقليدي، والزمن المتاح للإجابة عن السؤال الفلسفي.
معلوم سبق النظام التعليمي في تونس وتصدره القوائم على المستوى العربي، وبخاصة في التدريس الفلسفي في الثانويات والجامعات، وقد درج على أرض تونس الكثير من الفلاسفة الذين درّسوا فيها من بينهم ميشال فوكو؛ ولذلك فإن الحيوية الفلسفية في بلدٍ مشعّ كتونس إنما يعبر عن عدم الاستسلام للأزمات السياسية، ولا للاضطرابات المحيطة به من دولٍ منهارة، وكرة ثلج الانحطاط تكبر في محيطه وعلى مقربة منه.
أجابت النموشي عن السؤال التالي: «قيل (بقدر ما يُنشئ الإنسان الرموز تتوسّع دائرة ما هو إنساني) – حلل هذا القول وناقشه مبرزاً منزلة الرمز في تحقق ما هو إنساني». ومن ضمن إجابتها الطويلة (الوزارة نشرت ورقة الطالبة كاملة) قالت: «الفلسفة التي نخوض بها بحثنا إنما هي فلسفة الوظائفيّة لا فلسفة الماهية وإنسان الجوهر بل الإنسان الذي يتوجه إلى كثرة لا يقصيها وإنما ينفتح عليها في سبيل بناء إنسانيته، في سبيل خلق مجاله الذي لا يكون لغير الإنسان؛ لأنه هو الفاعل الذي (يُنشئ). ويبدو أن الفعل بكونه منسوباً إلى ضمير مفرد قد جاء في صيغة معرفة لن يكون إحالة إلى فرد أو جماعة خاصة وإنما ينحو منحى كلياً عاماً، ولعل ذلك ما يدعمه مصطلح (ما هو إنساني). فالـ(ما) أداة الإشارة إلى عالم الأشياء، إنها إذن إحالة إلى العالم المادي، لكنها قد نسبت إلى (هو إنساني) في تعريف، يضيف إليها صفة ما يجعلنا نفترض لا فقط تحوير هذا العالم المادي، وإنما الـ(هو) هي حتماً إحالة إلى الإنسان في ذاته لأنه ضمير يحمل دلالة حية. إننا نفترض إذن جدليّة ثلاثية لن تحيا فيها (ما) دون (هو) إلا عن طريق فعل (ينشئ الرموز)، ثم إنها رموز في صيغة جمع ربما هي التي افترضت مصطلح (تتوسع) إذ كلاهما إحالة إلى التكثر والتنوع».
حللت الرموز منطلقة بأدواتٍ ومفاهيم ممتازة، وإن اختلف القارئ مع المعايير التي اتخذتها، وبخاصة في نظرتها للرمز في المجال الفني، ومع اهتمامها بتوظيف مفاهيم الاختلاف، وقراءتها الجيدة للرمز والهوية، إلا أن الفلسفة التي حذّرت الطالبة من تحويلها خلل توظيفها توشك أن تكون كذلك لأنني قلق من أي استعمالٍ أو استغلالٍ آيديولوجي لنجاح هذا العقل الحي من أي جماعة باسم حراسة الدين أو الهوية؛ إذ يتبدى في تضاعيف ورقة الامتحان الرائعة تلك رغبة في الانكفاء، وهذه نقطة لا يمكن مواجهة الطالبة بها؛ إذ لا تزال في مقتبل العمر، ولديها فسحة من الحياة لوضع آلياتها الفلسفية والمعرفية خارج كل توظيف مسبق، والانطلاق بالسؤال الفلسفي من الدهشة الأولى، البحث الأولي، البحث غير المشتبك مع قبليات أو مسبقات وإنما في الظواهر، والومضات، والشهب.
الميزة التي طبعت ورقة الإجابة لأميرة، أن الكتابة واللغة التي استخدمتها فلسفية فكرية مع اهتمامها بالأسلوب، وربما تأثرت بطريقة الاختصار لطه عبد الرحمن، وتكرارها مفهوم «الكثرة» الذي يفضّله طه، ولديها إمكانات رائعة لأن تكون مستقبلاً اسماً فلسفياً لامعاً في تونس، والأهم من ذلك أن الورقة تشي بتمرينات طويلة مارستها الطالبة مع أساتذتها، وقد لفت نظري تعليق أحدهم قائلاً: «نجاح الطالب نجاح للمعلم، والعكس»، ومع أنه معيار يحتاج إلى نقاش، فإن التمارين المتقنة التي تفتح عقول الطلاب إلى الأسئلة، وانتقاء العدد الذي يختارونه، والانهماك بالمفاهيم التي يرون مناسبتها لفك المستغلق من الأسئلة والإِشكالات هو أهم أسس التعليم منذ أن بدأ في أكاديميات اليونان البسيطة وحتى اليوم.
الفلسفة عملية تمرين طويل الأمد للحفاظ على حيوية العقل وقوته لمواجهة جميع التحديات والإِشكالات. على سبيل المثال في كتابٍ مهم للتمرين الفلسفي وهو مقرر فلسفي في بعض الثانويات بالعالم وأعني به «الدروس الأولى في الفلسفة» لمؤلفه فريدريك لوبيز، يكتب في المقدمة: «الفلسفة هنا، كما هي مقترحة في الصفوف الثانوية، هي الأقل التباساً، إن المقصود من جهة، التفكير بالذات، تجاوز موقف الحكم السلبي المدرسي تجاه العلم… وبما أن تقويم أوراق الامتحان يحتاج إلى معايير قابلة للقياس، يكون الإغراء قوياً في تفضيل المعارف على التفكير، وفي إرجاع القضايا إلى تحليل المسائل الحقيقي. إن التعارض بين التفكير الشخصي وأستاذية المؤلفين لا معنى له مع ذلك. إن الفلسفة كتساؤل جذري تتعلق بقلق ملازم للفكر، ينبغي من أجل التفلسف العثور على بساطة الأسئلة الطفولية وجسارتها، والدهشة البريئة تجاه الموت، والعنف، والحب، تتطلب الفلسفة هكذا بعض الوقاحة، عدم الخوف من الرأي، من أجل الجرأة على طرح الأسئلة المحرمة، وعدم الخوف من الذات، من أجل المخاطرة في رهبة الشك».
أميرة النموشي بورقتها الرائعة، تبين أن تونس كانت ولا تزال من وجوه الفلسفة المشرقة في العالم.
المصدر: الشرق الأوسط