كاتب إماراتي
يمارس المثقف دوراً تنويرياً في حياة المجتمع، إنه يقود الحراك الثقافي نحو مستقبل أكثر وعياً وانفتاحاً وعدلا لوطنه وأمته، دوره ينطلق من فهمه للواقع الذي يفترض أن يكون مبنياً على نظرة علمية وأفق فكري يملكه وخلفية ثقافية، وتجارب غنية مر بها أو استفادها من قراءاته. وقد يكون ينتمي إلى مدرسة أيدلوجية يؤمن بأفكارها، لهذا يعد المثقف الحقيقي قدوة لأجيال، وقائداً يوجه عقول الأفراد المؤمنين بفكره نحو ما يراه الأصلح. ويحرص هذا المثقف على الثوابت التي ينادي بها، ويكون أول حرّاسها، ولا يتخلى عنها إلا إذا أثبت له الواقع أنها غير مجدية أو طوباوية أو أن الزمن تجاوزها ولا تصلح لواقع جيل جديد.
لهذا فإن مكانة المثقف تعد كبيرة عند الفريق الذي يؤمن بفكره والدور الذي يؤديه في إصلاح المجتمع أو السعي به نحو واقع أفضل.
وفي ثورات “الربيع العربي” كانت المجتمعات تبحث عن أصوات المثقفين البارزين فيها، تريد أن تسمع رأيهم وتحليلاتهم وإلهامهم فيما يحدث، وماهي الخطوة المقبلة التي لابد منها، فالمثقفون الكبار منهم والذين حمّسوا هذه الشعوب طوال السنوات الماضية، وأشبعوها- وهي الظمآ- حديثاً وشعارات وأحلاماً بالحرية والحقوق والديمقراطية والمستقبل الأجمل… وصبُّوا في آذان الناس حديثاً طويلا عن الغضب وضرورة التغيير وأهمية الثورة، فكانت الشعوب في أمس الحاجة إليهم في لحظة الحقيقية. ساعة الحلم التي طالبوا بها وحملوها في أدبياتهم لهذه الأمة وهي تكاد تقترب وتصبح واقعاً، كانت تتوقع أن تجدهم، ولقد كان الكثير منهم على قدر مسؤولية الدور الذي مارسوه والرسالة التي حملوها، فوقفوا دون لبس وبقوة مع الشعوب في ثوراتها. لكن بعضهم تخاذل وتردد، وبعضهم التبس عليه الأمر، ومنهم من كان ينتظر النتائج ليحدد في أي اتجاه سوف يسير.
وفي مصر مثلا خذل ثورتها كتّاب كبار في “الأهرام”، بل الجريدة بأكملها صدمت الكثيرين، فقبل أن يسقط النظام الحاكم كانت أقلامهم قوية ضد ثورة الشباب، وبعد ليلة الانتصار انقلبوا إلى أنصار لها. هذا التخاذل والنفاق الذي مارسه المثقفون أفقدهم الصدقية، ولو ظلوا على موقفهم أو صمتوا لكان أفضل لهم، لكن أن يتلونوا هكذا وبهذه السرعة فذلك أمر صادم.
لا نتحدث عن دور الإعلام الرسمي، فذلك دوره، بل نتحدث عن مبادئ يفترض أنها عند كتاب كبار، وعن صحيفة عريقة تعد مدرسة صحفية لأجيال، وكتب على صفحاتها عمالقة الكتّاب والمفكرين يوماً ما.
وفي ليبيا، انتقدوا صمت الروائي إبراهيم الكوني الذي يعد أشهر وجه أدبي ليبي يعرفه العالم اليوم، كانوا يبحثون عن صوته وكلماته في أيام الثورة. خرج عليهم بعد أن انتصر الثوار يشجب ويندد كل من عاب عليه صمته، قال لهم أنا كنت موجودا، أدعم الثورة في الإعلام الغربي، مشكلتكم أنكم لا تقرؤون! ماذا لو كان دعم أهله في الداخل؟ حينها كانت أية وسيلة إعلام ستفتح له صفحاتها وشاشاتها، فهو النجم الكوني وهذه ثورة بلده، وكلماته ستكون مؤثرة ولها صدى وقيمة معنوية في وقت الشدة.
في ثورة سوريا ومنذ بداياتها، خلق أدونيس حالةً من الحيرة في مواقفه وكتاباته حولها. فلا قامة شعرية وأدبية اليوم في وزن أدونيس على المستوى الإقليمي أو الدولي، اسمه هو الأشهر والأكثر قوة وتأثيراً في الساحة الثقافية، لو صدح بقصيدة غاضبة، لو كتب للثوار فإن الإعلام الحر سيحتفي بقول أدونيس، لكنه خذلهم و كان “متحولا”. فمواقفه الكتابية مما يحدث كانت متذبذبة، أو أصابها “العمى الثقافي” كما وصفها الناقد عبدالله الغذامي، أم نها “الازدواجية “عند أدونيس! إن “المشكلة في عقل النخبة كونها تريد تفصيل الثورات على مقاسها” كما يقول الشاعر السوري نوري الجراح. إنه، كما يبرر ذلك الموقف، ضد دولة ستحكمها الأصولية الإسلامية، إذ يرى في هذه الثورات، كما قال في حديثه لمجلة “بروفيل” النمساوية قبل أشهر قريبة، وكانت الثورة في بداياتها حينئذ، “إن من يسيطر على المشهد اليوم هم الأصوليون والمتدينون الذين يتلقون الدعم من الخارج، وهم الذين يجنون ثمار الثورة. فأنا لا أريد المشاركة في الانتقال من ديكتاتورية عسكرية إلى ديكتاتورية دينية”.
كما أن هذه الثورات والمواقف منها جعلت كاتباً شهيراً مثل جهاد الخازن يحتد ويرد على زميل له انتقد مواقفه ويستخدم ألفاظاً مثل “دونكشوت الرياض”، أو أن يقول له في رد آخر: “أنت كذّاب… كذّاب… كذّاب!”، مكرراً العبارة التي استخدمها الشيخ صادق الأحمر في وصف الرئيس اليمني السابق في عز اشتداد أزمة الحكم هناك. الكلمات والأسلوب الذي ردّ به الخازن غير متوقع من صحفي يعد مدرسة في كتابة المقال الصحفي وفي الصحافة عموماً.
وكان محمد آل الشيخ، وهو أحد كتاب صحيفة “الجزيرة” السعودية، نشر مقالا منتقدا فيه الخازن لمواقفه من الثورة السورية، ونقل موقع “إيلاف” هذا المقال، ودارت رحى الحرب الكتابية بينهما، واستخدما ألفاظاً لا تناسب مكانة كل منهما، بل تشوه صورة الزمالة الصحفية. والأوصاف التي استخدمها آل الشيخ في خطابه إلى زميل كبير مثل الخازن قوله: “ويأبى الخازن إلا ويكشف عن سوأته”!
هذه الثورات غيّرت واقع دولها، وصنعت مستقبلا جديداً، أما ماهية هذا الآتي فتحدده الممارسات ومدى نضج التجربة، ومدى استمرارية الشعوب في إخلاصها لمبادئها. ومهما كان الحاضر فإنه بالتأكيد أجمل من ماضي القمع والفساد والطغيان الذي عاشته تلك الدول.
لقد كشفت هذه الثورات عن أقنعة ثقافية، وأسقطت شخصيات كنا نعدها رموزاً في هذا الميدان، ويبدو أن لها رؤية كذلك في المشهد الثقافي، وفي الوجوه التي ينبغي لها أن تقود وتحرك وتلهم هذه التجربة.
المصدر: جريدة الإتحاد