كاتب سعودي
في مسيرة التطوير الحضاري التي تشهدها المملكة العربية السعودية أصدر الملك سلمان قراراً تاريخياً بالسماح للمرأة بقيادة السيارة والطائرة مثلها مثل شقيقها الرجل، في إكمالٍ لما تشهده السعودية من قفزاتٍ نوعية نحو مستقبلٍ مشرقٍ.
تطوير المجتمعات بالغ الأهمية في مسيرة التنمية لأي دولة، ولكنّ بعض القضايا الاجتماعية الثانوية يتم تصعيدها – لأسبابٍ متعددة – بحسب كل دولة لتصبح من العوائق الكبرى، وقيادة المرأة للسيارة هي إحدى أوضح هذه القضايا في السياق الاجتماعي السعودي.
للمستقبل، فتحتَ رعاية الملك يقود ولي العهد السعودي بلاده برؤية معتمدة ومنشورة «رؤية 2030» وقد جاء فيها: «تبدأ رؤيتنا من المجتمع وإليه تنتهي… ينبثق هذا المحور من إيماننا بأهمية بناء مجتمعٍ حيوي يعيش أفراده وفق المبادئ الإسلامية ومنهج الوسطية والاعتدال معتزين بهويتهم الوطنية وفخورين بإرثهم الثقافي العريق». وجاء أيضاً «ولعلّ أبرز ما يميز مجتمعنا التزامه بالمبادئ والقيم الإسلامية وقوة روابطه الأسرية وامتدادها، مما يحثنا على تزويد الأسرة بعوامل النجاح اللازمة لتمكينها من رعاية أبنائها». كما أن من أهداف الرؤية «رفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل من 22 في المائة إلى 30 في المائة». وأيضاً «تمكين المرأة واستثمار طاقاتها»، وقرار قيادة المرأة لمركبتها هو نموذجٌ تطبيقي واحدٌ فقط لما جاء في رؤية 2030.
السعودية الجديدة هي السعودية المجيدة، التي تقرن الأقوال بالأفعال، وقد صرّح ولي العهد السعودي في حواره مع وكالة «بلومبيرغ» المنشور في هذه الصحيفة 23 أبريل (نيسان) 2016 أنه يؤمن أن «هناك حقوقاً للنساء في الإسلام لم يحصلن عليها بعد»، كما نقلت الوكالة عن ضابط أميركي سابق التقى الأمير قوله إنه مستعدٌ للسماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، لكنه ينتظر اللحظة المناسبة لمناقشة الأمر مع المؤسسة الدينية، وقد جاءت تلك اللحظة مسبوكة بحسن الإدارة وقوة العزم.
المتتبع لتصريحات ولي العهد السعودي الذي يقود انتقالاً كبيراً داخلياً وخارجياً لمكانة بلاده يدفعها باتجاه المستقبل، يعرف جيداً أنه لا يقول شيئا إلا وهو يعنيه تماماً، وأن تصريحه حول أي قضية أو أزمة يعني أن لديه خطة كاملة، وأنه سيطبقها بمجرد ما يستكمل مستلزماتها، ينطبق هذا على السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع.
لا يقوم أي مجتمعٍ ونصفه معطّلٌ، وقد مرّت بالسعودية حقبة يسميها الأمير ما بعد 1979، وأنه يقود جيلاً من الشباب السعودي غير معني بإشكالياتها، والدول التي تجدد نفسها هي التي تخلق أولوياتها وترسم طموحاتها بعيداً عن معوقات الماضي وإكراهات الحاضر.
فيما مضى، وليطلع القارئ على شيء من جدالات تلك الحقبة، فقد كانت تياراتٌ بعينها وهي تيارات الإسلام السياسي تقول بأن الرهان على الأمة، فقالت تياراتٌ وطنية متعددة بل الرهان على الوطن، وقالوا بأن الانتماء يكون للآيديولوجيا وقلنا بل هو للدولة، وقالوا إن الحدود السياسية هي حدود العقيدة، وقلنا بل حدود الجغرافيا والدولة الوطنية الحديثة، وفي سياق المرأة، قالوا بأن المرأة قاصرٌ وقلنا بل كاملة الأهلية، وقالوا بأنها عورة، وقلنا بل شريكٌ في البيت والعمل والوطن، وقالوا بأن تعليمها حرامٌ وعملها حرامٌ وخروجها من منزلها حرامٌ، وقلنا بل هذه حقوق أصلية لها لتكون عنصراً فاعلاً في مجتمعها ورافداً مهماً لدولتها ووطنها، وأصروا أن يبقوها عالة على غيرها في كل شأنٍ يخصّها، وأصررنا أنها يجب أن تكون مسؤولة عن نفسها وتبني مستقبلها بيدها، وحول الاختلاط، قلنا بل هو أمرٌ طبيعي كان موجوداً في كل المجتمعات، بما فيها المجتمع النبوي، وطالما قالوا وقلنا، وفي الأخير، لم يصح إلا الصحيح، فانتصرت الدولة لنفسها ولمستقبلها ومستقبل شعبها.
كانت ثمة منظومة متكاملة من خطابٍ يتهم المرأة ويحاصرها، عبر مفاهيم ومصطلحاتٍ، وقراراتٍ وتعميماتٍ، وأجهزة ومؤسساتٍ، كانت نتيجة لتغلغلٍ مخططٍ له ليكون عائقاً تجاه أي تمكينٍ للمرأة، وكم هو مثيرٌ اليوم أن يشهد الشعب السعودي قراراً تاريخياً بحقٍ ينصف المرأة وينتصر لها ويظهر تلك الجدالات، وكأنها كانت في وادٍ سحيقٍ من الماضي.
في حاضر البناء والتنمية، مرّ هذا القرار التاريخي كغيره من سوابقه وهو ما سيكون مع لواحقه بترحابٍ كبيرٍ في الشارع السعودي، وتلقاه العالم بالتحية والتقدير اللائقين، إنه دليلٌ آخر على السعودية الجديدة التي تعيد رسم مكانتها الإقليمية والدولية وتقيم ورشة كبرى لتحولاتٍ وبرامج ومشاريع ضخمة تجرف معوقات الماضي وتبني حاضراً زاهياً يكون جسر عبورٍ حقيقي لمستقبلٍ منشودٍ.
قرار كبيرٌ كهذا يستلزم تهيئة بيئة ملائمة في التنفيذ فتمّ تشكيل لجنة من عدة وزاراتٍ ترسم الخطة وتتابع التنفيذ، ويستلزم بيئة تشريعية تستبق أي إشكالاتٍ في التطبيق فتم الأمر بإصدار نظامٍ للتحرش لمنعه وتأديب أي مخطئٍ، ومثل هذا النظام يشكل ضرورة قصوى لا لقيادة المرأة للسيارة فحسب، بل لكل مشاريع التطوير الكبرى في قطاع المواصلات، القطارات والمترو والحافلات، كما في قطاعات التجارة، والسياحة، والثقافة، والترفيه، بمعنى أن يكون رادعاً لأي تشويشٍ على تطور المجتمع.
مرّ موضوع قيادة المرأة للسيارة بعدة مراحل منذ مطلع التسعينات حتى اليوم، وكان موضوع شدٍ وجذبٍ اجتماعيٍ، وثقافيٍ، وكان إصرار القيادة السياسية حينذاك على أنه موضوع اجتماعي، مع ما يحتاجه من إجراءاتٍ ومستلزماتٍ، تمّ توفيرها واستكمالها وجاءت اللحظة التاريخية فصدر القرار.
قبل ما يعرف بالصحوة كان المجتمع السعودي يعيش تطوراً طبيعياً كغيره من المجتمعات، وتحديداً في الموقف من المرأة ودورها في المجتمع، فكانت نساء البادية يقدن سياراتهن ويقضين حوائجهنّ دون اعتراضٍ من أحدٍ ودون أي استنكارٍ، وكان من شأن ذلك الانتقال بشكلٍ سلسٍ للأرياف والمدن لولا ما كان يعرف باسم الصحوة التي لم يكن صعودها عائقاً – فحسـب – بل جرّ المجتمع القهقرى في سلم الحضارة فيما يتعلق بالمرأة ومكانتها.
في ظلّ الوتيرة المتسارعة للدولة السعودية للحاق بركب الحضارة والدخول في منافسة على أعلى المعايير الدولية في كل المجالات، لإثبات السعودية كبلدٍ قادرٍ على التجدد والتطوير والبناء المستمر، فقد تلقّى المجتمع هذا القرار كجزءٍ من رؤية شاملة تتجاوز المعوقات الوهمية والمفتعلة يوماً بعد يومٍ وقراراً تلو قرارٍ، وقد بدأ تفكيرهم يتجه دائماً نحو المزيد من التطوير والرغبة في الأفضل والمنافسة على المراكز الأولى حضارياً.
المصدر: الشرق الأوسط