رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط
هي قصة لا تنتهي. كلما حدث طارئ عكر موسم الحج، تتكرر الأسطوانة، ولا جديد في الأمر. الجديد أن السعودية لا تتوقف عند ذلك بل تستمر في إعطاء خدمة الحجاج الأولوية القصوى على ما سواها. تنفق ما يقارب 10% من دخلها على الخدمات المقدمة في مكة المكرمة والمدينة المنورة. وفوق ذلك تعتبر أن ما تقوم به من خدمة أكثر من 1.5 مليار مسلم شرفًا وليس منة. هذا الشرف ليس معنيًا به ملوكها أو حكومتها فحسب، بل أيضًا 20 مليون مواطن يتشرفون بذلك. فلما حدثت فاجعة التدافع في منى، عادت الأسطوانة المشروخة مجددًا، وكأن هناك من يتمنى هذه الحادثة ليستغلها سياسيًا ويزايد على السعودية في تنظيم الحج.
بغض النظر عما تسفر عنه التحقيقات في حادثة التدافع المؤسفة، فإن إسقاط هذه الحادثة لنسف جهود مئات الآلاف من البشر يساهمون في خدمة الحجاج، أمر فيه الكثير من الإجحاف وعدم الإنصاف، فموسم الحج كل عام، على الأقل في المواسم القليلة الماضية، يمر بلا حوادث تعكر صفوه. هذا العام عندما حدث التدافع، لم تكن المفاجأة من ردود فعل نظام إيران العدواني وتخبطاته، فهذا أمر متوقع، بل ربما المستغرب لو كان غير ذلك. الغريب موقف دولة مثل تركيا. يخرج رئيس الشؤون الدينية فيها بتصريح مستفز يطالب فيه بمؤتمر دولي لمناقشة «أمور تأمين الحج»، ثم يتبعه رئيس الحكومة داود أوغلو بالقول إن حادث منى «يتكرر في الحج مرارًا». علمًا أن آخر مرة حدث التدافع في الحج كان قبل 25 عامًا في نفق المعيصم. فكيف يقول إنها تتكرر؟! مطالبًا السعودية بأن تستفيد «من التجارب السابقة»، ولا نعلم أي تجارب سابقة يتحدث عنها السيد أوغلو.. إلا إذا كان الحج يقام في غير مكة! ثم يهدئ الرئيس رجب طيب إردوغان الأمور قليلاً برفض تحميل السعودية المسؤولية ويشيد بتنظيمها لمواسم الحج والعمرة، فهل انتهى المسلسل التركي؟ بالطبع لا، يدخل مسؤول تركي كبير آخر على الخط، هو نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يرى أن بلاده يمكن أن تنظم الحج بشكل أفضل من السعودية. ما أتعسها من مزايدة لا تليق بمن يقدم نفسه صديقًا!
يبقى السؤال: هل توقفت الدولة السعودية عن تطوير موسم الحج؟ بالدلائل إن التطوير يستمر عامًا بعد الآخر، وكل من أدى فريضة الحج في السنوات الأخيرة يشهد بهذا، وهو ما أكده العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز في خطابه أول من أمس بقوله: «بغض النظر عما يظهر من نتائج التحقيقات، فإن تطوير آليات وأساليب العمل في موسم الحج لم ولن تتوقف». أيضًا خادم الحرمين الشريفين لم يغفل أن موسمًا مثل الحج يحتاج لرفع مستوى تنظيم إدارته، عندما وجه بمراجعة كل الخطط المعمول بها.
من جانب آخر، لم يتوقف السعوديون أنفسهم عن المطالبة بتطوير موسم الحج، فوسائل الإعلام المحلية ومنذ سنوات طويلة لا تتوانى عن نقد أي خلل واقتراح أي رؤى يمكن الاستفادة منها، سواء كانت قادمة من الداخل أو الخارج، وكانت الحكومة غالبًا تتجاوب مع هذا الحراك الرامي للوصول إلى تحسين مستوى الخدمات المقدمة لزائري مكة والمدينة، وهذا بالطبع يختلف عن تسييس الحوادث بصورة تفرغ أي انتقاد ولو كان موضوعيًا من مضمونه.
هناك فرق بين انتقاد الأخطاء الهادف لتحسين الأداء، مع مشاركة الجميع في تطوير موسم حج متكامل بلا أخطاء، وبين نسف كل العمل من أجل مكاسب سياسية زائلة، أو مزايدة رخيصة، الأيام المقبلة كفيلة بإظهارها على حقيقتها.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط