* وزير المالية السوداني السابق
خاص لـ هت بوست :
مقدمة
في مقالنا السابق الموسوم “المشروع الوطني لليوم التالي: البرنامج الإسعافي لإعادة الإعمار والانتقال النهضوي“(1)، قدّمنا تصوراً اقتصادياً متكاملاً لمرحلة ما بعد الحرب يقوم على أربعة مكونات رئيسية: استعادة الأمن والعون الإنساني؛ تعبئة الموارد الذاتية والدولية المجمّدة؛ تشغيل الشباب عبر برامج “النقد مقابل العمل”؛ وإعادة بناء الخدمة المدنية من خلال منهج “التشبيب” والمصافحة الذهبية. ويرتكز هذا المشروع على ثلاث دعائم اقتصادية ضرورية لإعادة الإعمار، هي: الانتقال من التقشف إلى النمو؛ التحول الهيكلي في الزراعة وبناء ممرات الإنتاج حول المدن الكبرى؛ وإنشاء صناديق الحماية الاجتماعية الشاملة والتحويلات النقدية.
ولأن أي برنامج جاد لإعادة الإعمار والانطلاق نحو التحولات التنموية الكبرى ليس وصفة تقنية معزولة، بل جزء من مشروع وطني أشمل، فقد أكدنا في مقالات سابقة أهمية خمس مرتكزات سياسية ومؤسسية حاكمة لنجاحه: الشرعية الاقتصادية؛ النظام الرئاسي – البرلماني الهجين؛ الانتقال من نظام الولايات إلى نظام الأقاليم والمحليات حول المدن الكبرى؛ حكومات الوحدة الوطنية؛ والسردية الوطنية الجامعة.
وانطلاقاً من ذلك، نواصل في هذا المقال تناول مكونات المشروع الاقتصادي بمزيد من التفصيل، مستهلّين بسؤال محوري يتعلّق بتدريب وتوظيف الشباب لدعم العون الإنساني، والمساهمة في إعادة الإعمار، والمشاركة في إعادة بناء الخدمة المدنية والقوات النظامية.
فالدولة الحديثة بعد الحرب لا تُبنى على أعمدة الماضي وحده، بل تنهض على طاقات المستقبل، وفي مقدمتها الشباب والمقدرات الرقمية. وفي بلد يشكّل الشباب فيه أكثر من 60% من السكان، ويقف على عتبة إعادة بناء مؤسساته شبه المنهارة من الصفر، يصبح إشراك هذا الجيل في صياغة نسخة جديدة من الخدمة المدنية شرطاً بنيوياً لنجاح البرنامج الإسعافي، ولإطلاق نهضة اقتصادية حقيقية وقابلة للاستدامة.
أولاً: الشباب كقوة دفع للمرحلة الإسعافية
أظهرت مبادرات “المطابخ المفتوحة” – المشهورة ب”التكايا” – التي نشأت مع اندلاع الحرب قدرة المجتمع السوداني – وخاصة شبابه – على ابتكار حلول إنسانية ذاتية وسط غياب الدولة والانهيار الشامل لمنظومات الدعم الرسمي. فقد قاد المتطوعون، من خلال غرف الطوارئ والمبادرات المحلية، عملاً بطولياً لتوفير الطعام والمياه والإسعافات الأساسية لمئات الآلاف من الأسر والنازحين، مستندين إلى قيم التكافل و”النفرة” المتجذّرة في الثقافة السودانية. وبرغم هشاشة التمويل، وانعدام الأمن، وتهديد المتطوعين، وإغلاق حوالى 70% من هذه المطابخ بسبب الظروف القاسية – إلا أن التجربة برهنت أن المجتمع قادر على حماية كرامته، وأن التضامن الشعبي يمكن أن يسد فجوة هائلة خلفتها مؤسسات الدولة المنهارة.
تكمن القيمة الاستراتيجية لهذه المبادرات في كونها نواة حقيقية لإعادة بناء السودان بعد الحرب. فالشباب الذين أداروا هذه المطابخ اكتسبوا خبرات تنظيمية ولوجستية وإدارية يمكن أن تتحول – مع التدريب والدعم المناسب – إلى قوة فاعلة في برامج الإغاثة المنظمة، وإعادة الإعمار، وتنمية المجتمعات المحلية. كما أن شبكة التضامن بين الداخل والدياسبورا السودانية، التي موّلت جانباً كبيراً من هذه الجهود، توفر أساساً يمكن البناء عليه لبناء منظومة إنسانية وتنموية مستدامة. وبذلك تصبح تجربة “التكايا” أكثر من مجرد استجابة طارئة؛ إنها دليل على أن طاقات الشباب وحيوية المجتمع يمكن أن تكون رافعة مركزية لمسار التعافي الوطني وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة من الاعتماد على الذات والمشاركة المجتمعية.
لكن القيمة الحقيقية لهذه التجربة لا تقف عند حدود العون الإنساني، بل تمتد لتكشف عن طاقة شبابية هائلة يمكن أن تتحول إلى قوة دفع محورية في الأشهر والسنوات الخمس الأولى بعد الحرب. فإعادة بناء السودان لن تعتمد فقط على تمويل إعادة الإعمار أو إصلاح الدولة المركزية، بل تحتاج إلى جيل جديد يتقن أدوات الثورة الرقمية، وقادر على تنفيذ مهام لا غنى عنها لأي تعافٍ اقتصادي وإداري حديث. وتشمل هذه المهام:
- إنشاء فرق تقنية شبابية لتطوير نظم التسجيل السكاني، والأنظمة المالية والإدارية، بما يضمن الشفافية وإدارة الموارد بكفاءة؛
- بناء خدمات هوية رقمية موثوقة تُعد شرطاً أساسياً لتقديم المساعدات، وتنظيم السوق، وتطوير خدمات الدولة؛
- دعم المستشفيات والمدارس بحلول رقمية منخفضة التكلفة (السجلات الطبية الإلكترونية، أنظمة متابعة التعليم)، بالاستفادة من قدرات الشباب وخبراتهم التقنية؛
- إنشاء قواعد بيانات متقدمة للاستهداف الاجتماعي تساعد على تصميم برامج حماية فعالة، وتوجيه الدعم لمستحقيه؛
- تطوير نظم وطنية للتنبؤ بالمخاطر وإدارة الكوارث تعتمد على البيانات والذكاء الاصطناعي لرصد النزوح، ومراقبة الأوبئة، وتحليل مخاطر المناخ؛
- مراقبة سلاسل الإمداد الغذائية ورسم سياسات غذائية مبنية على البيانات، بما يعزز الأمن الغذائي ويحُدّ من المجاعة.
إن تجربة المطابخ المفتوحة ليست مجرد لحظة تضامن عفوي؛ إنها دليل موثوق على أن الشباب السوداني يمتلك القدرة على قيادة مرحلة الإسعاف، ووضع الأسس التقنية والتنظيمية لإعادة الإعمار، وبناء دولة حديثة تُدار بالبيانات، وتستند إلى شبكات مجتمع حيّ وفعّال. وبذلك يصبح الشباب ليس فقط طوق نجاة في زمن الحرب، بل قوة تأسيسية لنهضة ما بعد الحرب.
ثانياً، نافذة تاريخية لإعادة تشكيل الخدمة المدنية
إن إصلاح الخدمة المدنية ليس مسألة إدارية، بل هو مشروع لبناء الإنسان والمؤسسة معاً. وفي عالم يتغير بسرعة هائلة بفعل الرقمنة والذكاء الاصطناعي، فإن الدولة التي لا يعاد تأهيل جهازها البيروقراطي وفق هذه التوجهات ستظل أسيرة التخلف، مهما تدفقت عليها الموارد. ولذلك فإن إعادة توظيف آلاف الشباب من ذوي الكفاءات التقنية – في مجالات الاقتصاد، المحاسبة، الهندسة، الإدارة، البرمجة، تحليل البيانات، نظم المعلومات، الأمن السيبراني، الذكاء الاصطناعي، السجلات المدنية الرقمية، وإدارة المعلومات الجغرافية – هي استثمار في بنية الدولة نفسها، وليس مجرد توظيف.
ثالثاً: الدور الحاسم للشباب في قيادة المستقبل الرقمي لبناء الدولة الفَعَّالة
بالنسبة للسودان بعد الحرب، فإن إعادة البناء تتطلب نهجاً مشابهاً يقوم على ترسيخ الهوية الرقمية، وتحديث نظم التسجيل السكاني والمالي، وإنشاء قواعد بيانات دقيقة للاستهداف الاجتماعي، وتطوير خدمات صحية وتعليمية رقمية منخفضة التكلفة يقود تنفيذها الشباب.
أما بالنسبة لتجارب الدول الرائدة فى هذا المجال، فقد قدّمت دولة الإمارات واحدة من أنجح التجارب الحديثة في توظيف الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي لبناء دولة فعّالة(2)، وذلك من خلال التحول المبكر إلى الحكومة الذكية، وتطوير الهوية الرقمية الموحدة، وإلغاء المعاملات الورقية، واعتماد الذكاء الاصطناعي في إدارة الخدمات العامة والتخطيط التنموي، إلى جانب تمكين واسع للشباب في مجالات البيانات، والأمن السيبراني، وريادة الأعمال الرقمية. وتبرهن هذه التجربة أن تحديث الدولة في القرن الحادي والعشرين لا يمكن بلوغه عبر الهياكل البيروقراطية التقليدية، بل عبر بناء بنية رقمية سيادية، وتأهيل الشباب بمهارات حديثة، وتبنّي التخطيط القائم على البيانات.
كذلك تؤكد تجارب إستونيا ورواندا وفيتنام وكينيا(3) أن الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي أصبحتا أدوات لا غنى عنها لبناء دولة فعّالة في عالم يتشكل اقتصاده اليوم تحت تأثير التكنولوجيا المتقدمة، ويطال أثره الدول المتقدمة والناشئة والفقيرة على السواء. وعليه، فالرقمنة ليست ترفاً، بل هي الطريق الأسرع والأكثر كفاءة لإعادة بناء الدول الخارجة من النزاعات، كما نأمل أن يكون السودان من بينها قريباً بإذن الله. وتشير هذه النماذج إلى قدرة التحول الرقمي على تعويض ضعف الموارد المالية والبشرية، وأنه قد يشكّل بالفعل “ممر السودان الضيّق” نحو بناء دولة حديثة بموارد أقل وفعالية أكبر.
ويمكن لدولة الإمارات العربية المتحدة – إلى جانب دول رائدة مثل إستونيا ورواندا وكينيا – أن تكون شريكاً مهماً في بناء القدرات ونقل الخبرات وتدريب الشباب، ودعم إنشاء بنية رقمية حديثة تسرّع إعادة الإعمار وتعيد تأسيس الدولة السودانية على أسس فعّالة وشفافة. وتجدر الإشارة إلى أنني زرتُ دولة الإمارات خلال فترة تولّي منصب وزير المالية، ضمن دعوة وُجّهت إلى وزراء مالية من سبع دول إفريقية من بينها السودان، للاطلاع على تجربة الرقمنة والحكومة الإلكترونية واستكشاف فرص التعاون في هذا المجال. وقد أُبلِغنا حينها بأن مصر وكازاخستان من الدول التي تسعى للاستفادة من هذه التجربة الرائدة. كما أعربت وزيرة الدولة للتطوير الحكومي والمستقبل في الإمارات، عهود الرومي، عن رغبة واضحة في دعم التحول الرقمي في السودان، غير أنّ هذا العرض لم يرَ النور بسبب الاضطراب الذي شهدته الفترة الانتقالية ثم نكسة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر.

ويمكن للسودان بعد الحرب أن يبني شراكات استراتيجية للاستفادة من خبرات هذه الدول في تدريب وتأهيل الشباب السوداني، الذي يمتلك ميزة نسبية كبيرة تتمثل في سرعة التكيّف مع التكنولوجيا، وارتفاع المستوى التعليمي النسبي، وحيوية المبادرات المجتمعية. ويبرز في هذا السياق نموذج رواندا، التي خرجت من كارثة وطنية وإنسانية ماحقة، وتمكنت – بقيادة جيل شاب – من تأسيس نواة “حكومة رقمية” أصبحت خلال عقدين نموذجاً قارياً، حتى غدت اليوم مركزاً إقليمياً للخدمات الرقمية بفضل “جيل ما بعد الحرب”.
وفي هذا الإطار، يصبح من الضروري تبنّي وتنفيذ برامج واسعة لتدريب وإعادة تأهيل الشباب تشمل ما يلي:
- دمج الشباب في برامج الخدمة الوطنية الجديدة باعتبارهم قوة إنتاجية رقمية؛
- تأسيس “أكاديميات للإعمار الرقمي” داخل الوزارات والهيئات الحكومية؛
- تدريب آلاف الشباب في مجالات الذكاء الاصطناعي، والبرمجة، وتحليل البيانات، وسلاسل الإمداد الذكية.
رابعاً: من الرقمنة إلى المعجزة التنموية خلال جيل واحد
تبيّن الأدبيات التنموية أن الدول التي استطاعت مضاعفة ناتجها المحلي عدة مرات في فترة جيل واحد لم تعتمد فقط على الموارد المادية، بل على التحول الهيكلي العميق المدعوم بالتكنولوجيا والمعرفة: كوريا الجنوبية ضاعفت ناتجها 12 مرة في أقل من 25 سنة عبر التصنيع والرقمنة والتعليم التقني؛ فيتنام ضاعفت اقتصادها 7 مرات خلال جيل بفضل التعليم المهني والتكنولوجيا الزراعية؛ رواندا ضاعفت اقتصادها 5 مرات في 20 سنة بالاعتماد على الرقمنة والحوكمة الفعّالة.
وللسودان فرصة مماثلة، وربما أكبر، لتحقيق قفزة تنموية نوعية إذا ما أحسن استثمار المرحلة الإسعافية في فتح المجال أمام الشباب عالي التأهيل لقيادة عملية رقمنة الدولة منذ البداية، وترسيخ مؤسسات حديثة تقوم على المعرفة والتكنولوجيا. ويشمل ذلك أيضاً تحفيز رواد الأعمال الشباب في مجالات الطاقة، واللوجستيات، والزراعة الذكية، وتقنيات المياه، ضمن برنامج وطني متكامل يشمل:
- إطلاق برنامج وطني للمهارات الرقمية يهيّئ جيلاً من الكفاءات القادرة على قيادة التحول التكنولوجي؛
- رقمنة الاقتصاد والإدارة العامة منذ المرحلة الإسعافية لضمان الشفافية وكفاءة الأداء؛
- دمج الذكاء الاصطناعي في التخطيط الزراعي، وإدارة الأراضي والموارد المائية، والإحصاء، وأنظمة التحصيل؛
- بناء قاعدة بيانات وطنية حديثة تمكّن من صياغة سياسات عامة دقيقة وفعّالة؛
- استخدام التكنولوجيا لرفع الإنتاجية في الزراعة والصناعة والخدمات، بما يعزز النمو ويؤسس لاقتصاد حديث بقيادة الشباب.
خاتمة
إن بناء السودان في اليوم التالي للحرب لن يتحقق بالاعتماد على الأدوات القديمة ولا عبر إعادة تدوير البيروقراطية المتهالكة، بل عبر استنهاض طاقات الشباب وتحديث الدولة من جذورها، مستندين إلى التجارب العالمية التي أثبتت أن الرقمنة والذكاء الاصطناعي يمكن أن يختصرا عقوداً من البناء المؤسسي في سنوات قليلة. فقد أثبتت مبادرات الشباب خلال الحرب، من “التكايا” إلى غرف الطوارئ، أن جيلاً كاملاً يمتلك القدرة على القيادة والتنظيم والابتكار حتى في أحلك الظروف. ويملك السودان اليوم فرصة تاريخية لتوظيف هذه الطاقة الهائلة لبناء خدمة مدنية حديثة، وبنية رقمية سيادية، واقتصاد منتج يستند إلى المعرفة والتكنولوجيا. وإذا ما توافرت الإرادة السياسية والرؤية الوطنية الجامعة، واستطاعت البلاد بناء شراكات استراتيجية مع الدول الرائدة في التحول الرقمي، فإن السودان قادر خلال جيل واحد على أن ينتقل من اقتصاد منهك إلى دولة فعّالة تُدار بالبيانات وتنهض بسواعد شبابها. تلك هي المعجزة السودانية الممكنة، وتلك هي مسؤولية الجيل المقبل في إعادة بناء وطن يليق بتضحياته وبفرصه الموعودة.
—————————
- أنظر المقال المذكور فى الرابط: https://alghadalsudani.com/19749/
- أنظر موقع الحكومة الرقمية لدولة الإمارات: https://dgov.tdra.gov.ae/en/about?utm_source=chatgpt.com
- أنظر هذه الروابط: إستونيا (https://e-estonia.com/)؛ رواندا:(https://public.digital/pd-insights/signals/signals-5/the-irembo-model-in-rwanda?utm_source=chatgpt.com)؛ كينيا:(https://dpi.africa.com/digital-public-infrastructure-in-kenya-the-impact-of-m-pesa-and-huduma-namba/?utm_source=chatgpt.com). وفيتنام:(https://en.vietnamplus.vn/2030-digital-government-blueprint-with-ai-at-core-approved-post333575.vnp?utm_source=chatgpt.com)؛
