كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
ما إن أقلعت الطائرة من مطار البحرين وحلّقت قليلاً، إلا وأعلن قائدها عن وضعية الهبوط التدريجي نحو مطار الدوحة. الأمر طبيعي، فالبلَدان ومعهما المملكة العربية السعودية «رمية حجر» من بعضهما بعضاً، ما يفسر من دون تحليلات سياسية عميقة، كيف يفكر قادة دول الخليج حيال «أزمة» البحرين، ويتعاملون معها كشأن خليجي «داخلي».
التحليلات السياسية البسيطة – في الغالب – هي الأفضل والأسلم، بينما يفضل البعض أخذ المسائل بعيداً شرقاً وغرباً، بينما المسألة بحرينية صرفة، يجب أن تعالج هناك، وإن استحكمت حلقاتها فستكون في إطار دول الخليج وعلى رأسها المملكة، فهي مستعدة دوماً للمبادرة، وفعل أي شيء ممكن لضمان سلامة البحرين وأمنها.
سبب هذا الحديث هو مرور عام منذ أن جلس العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى ومعه أركان الحكم في الجزيرة الوديعة التي ينبغي أن تعيش في سلام ووفاق وفق سياقها التاريخي، ليستمعوا الى نقد شديد من الخبير القانوني الدولي محمد شريف بسيوني رئيس لجنة تقصي الحقائق في ما حصل في البحرين منذ 14 شباط (فبراير) 2011، وبتكليف من الملك نفسه، في سابقة لم تحصل في أي بلد عربي خرج الشعب فيه يطالب بالتغيير.
دعيت للحديث مع آخرين في مركز الأبحاث المرموق في الدوحة «بروكنغز» لتقويم الأوضاع هناك بعد عام من تقرير بسيوني، فمنذ أن أخذت في الاستقرار في البحرين بعدما استقرت قناة «العرب» الإخبارية فيها، والتي أديرها وأنا أجلس مع أصدقاء بحرينيين، وأستمع إليهم في ما يجري في بلادهم، إذ أصبحت «صاحب مصلحة» وليس مجرد كاتب زائر. أعترف بأنني معجب بمستوى العيش هناك، ولكن في الوقت نفسه لن ألوم أي مواطن بحريني أو غير بحريني يريد حياة أفضل، أو يناضل من أجل حقوق أكثر ومشاركة أفضل.
حملت معي للندوة تقرير متابعة توصيات تقصّي الحقائق المؤرخ في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، ما يعني أن المتابعة مستمرة، وأن ثمة تقارير أخرى مقبلة، وأن الحكومة تعترف بأن «المصالحة الوطنية» الكاملة التي يهدف اليها تقرير بسيوني، وهي رغبة الملك، لم تتحقق بعد. حملت معي أيضاً نسخة من صحيفة «الوسط» المعارضة. كنت أنوي تقديم بعض حقائق تقرير المتابعة للتشديد على جدية الحكومة، وصحيفة «الوسط» للدلالة على أجواء حرة تعيشها البلاد. اهتممت كثيراً بتقرير استغرق نحو نصف صفحة غطت فيه مراسلة الصحيفة في لندن جلسة نقاش بين برلمانيين بحرينيين يمثلون الموالاة والمعارضة (إذا صح التعبير) وبرلمانيين بريطانيين. نقلت الصحيفة بكل أمانة انتقاد البريطانيين والمعارضة بشدة لما يرونه انتهاكاً لحقوق الإنسان، وهي تصريحات قد تتردد في نقلها صحيفة سعودية أو قطرية – تحسباً من أن تفسر بأنها مسيئة الى حكومة البحرين الشقيقة، فدول الخليج حريصة على ألا ينتقد إعلامها الدول الأخرى، باستثناء الصحافة الكويتية – ولكن ها هي منشورة في صحيفة بحرينية.
ولكنني تراجعت عن ذلك، فالقضية ليست ما فعلت الحكومة أو المعارضة من أجل المصالحة. من الممكن الدخول في جدل مع المشاركين معي في الندوة، ستيفن ماكلنرني مدير «مشروع ديموقراطية الشرق الأوسط» وهو مركز بحثي في واشنطن يتضح من اسمه نوع اهتماماته، والذي سبقني بتقديم «دراسة» تقول إن ثلاثاً فقط من توصيات بسيوني نفذت بالكامل، وستاً نفذت جزئياً و15 لم تنفذ.
من السهل على خبير قانوني بحريني أن يفند ما قاله الباحث الأميركي ويخرج بأرقام مغايرة، كل هذا ليس مهماً. المهم هو الإجابة عن سؤال: لماذا يعجز الطرفان عن التوصل إلى حل ممكن؟ على رغم أن مسافة الخلاف بينهما ليست كبيرة، ويعرفان بعضهما جيداً، ويدركان أن قدرهما العيش «تماماً» بالقرب من بعضهما بعضاً. لنتذكر أن البحرين جزيرة صغيرة، في طريقي الى مطار المنامة الثلثاء الماضي، كنت أرى سحابة سوداء على مسافة قريبة، في الغالب متظاهرون شباب غاضبون يحرقون إطارات سيارات، لعل أميركياً أو صينياً رأى المنظر مثلي وهو قادم من الاتجاه الآخر ما أثار مخاوفه. هذه التصرفات الصبيانية تصنع بيئة طاردة للاستثمار، ما يعني أن البحرين تستهلك الآن رصيدها من نجاحها الاقتصادي السابق للأزمة، وما يعني أيضاً مزيداً من البطالة، ومزيداً من الصعوبات الاقتصادية. هل هذا ما تريده المعارضة؟ ربما!
المعارضة البحرينية حتى الآن لم تلجأ الى عنف حاد (هنا سيغضب عليّ مسؤول أمني بحريني يعترك كل يوم مع هؤلاء الشباب)، ولكنني أقارن الوضع هناك مع ما أرى في سورية، فاستمرار الوضع الحالي قد يفتح للبحرين نافذة على الجحيم، ولكنها بقنابلها التي تقتل العمالة الآسيوية البائسة، وحرق الإطارات تدمر اقتصاد بلدها، بينما ثمة حكومة قريبة منها مستعدة للتفاهم.
أميل إلى لوم المعارضة أكثر، فمشكلتها أنها لم تقتنع بعد بأنها ليست جزءاً من «الربيع العربي» (هنا ستغضب عليّ المعارضة)، ولكن البحرين ليست تونس. هل تذكرون عندما كان المسؤولون في مصر وليبيا وسورية واليمن يقولون: «نحن لسنا تونس»، أولئك لم يكونوا صادقين ففاتهم القطار. المسؤول البحريني من حقه أن يقول ذلك، والمعارضة تعلم ذلك. المعارضة أيضاً ليس لها أن تقارن نفسها بالمعارضة المصرية أو السورية التي خرجت عن بكرة أبيها وبكل تموجاتها وطوائفها، وبقي النظام ومن حوله أقلية تؤيده وتتآكل كل يوم، هذا لم يحصل في البحرين.
مشكلة المعارضة أنها تحتاج الى من يقنعها بنظرية «الثابت والمتحول»، بينما هي تناضل في سبيل ما تعتقده حقوقها. الثابت أن الحكومة البحرينية ليست وحدها، فثمة جزء كبير من الشعب البحريني معها (لا يهم النصف أو أكثر أو أقل) ولكنه جزء كبير جداً، بعضه لا يؤيدها فقط، بل يضغط عليها إن أبدت أي تنازل، ومستعد أن يتحول إلى معارضة بطريقته الخاصة لو قدمت ما سيراه تنازلاً، ومنهم الإخوان المسلمون والسلفيون (نعم إنهم أولئك، رابحو «الربيع العربي» في بلاد أخرى) فهم منظمون ويعرفون كيف يضغطون على الحكومة، وجيران البحرين أيضاً، فليست السعودية وحدها المستعدة لإرسال قوات درع الجزيرة، بل حتى قطر التي تبدو للبعض صديقة دول الربيع العربي أو الشريك في مؤامراته المزعومة، هي الأخرى لن تتحمس لفكرة «رئيس وزراء منتخب».
الثابت الثالث أن الوضع الاقتصادي في البحرين جيد، ليس عظيماً، ولكنه أفضل من دول كثيرة في المنطقة، فالوضع الاقتصادي في فرنسا مثلاً ليس عظيماً، فهناك متظاهرون غاضبون على رئيسهم هولاند، ولكن ثمة مكاسب يمكن البناء عليها، وحرام التفريط بها من أجل متحول غير مضمون.
فما هو المتحول؟ إنها إيران. صحيح أنها ليست السبب الأساس للاحتجاجات، ولكنها هي ومن لفّ لفّها من غلاة المعارضة، هم من رفع سقف المطالب على حساب المعتدلين، فأساؤوا الى قضيتهم وخرّبوا طبختهم. إيران تتعرض لأكبر تحدٍ يواجهها منذ انتصار الثورة الإسلامية، إنها تنهزم في سورية، وستخسرها بالتأكيد، قد تخسر العراق و «نفوذ» حزب الله بعد ذلك، وستنكفئ على نفسها، لتحمي «الثورة» في عقر دارها. وقتها ستتخلى عن المعارضة البحرينية والحوثيين وكل امتداد امتدت إليه خارج خريطتها الطبيعية.
إذاً الأفضل والأضمن هو التعامل مع «السياسة الحقيقية». مع الثابت وليس المتحول. سيقول أحد منظّري المعارضة البحرينية، بعد أن ينهي قراءة مقالي هذا: أنت لا تفهم البحرين، والمسألة معقدة أكثر بكثير من هذا، نعم كل قضية معقدة، إن أردنا تعقيدها، ولكن غالباً ما تكون التحليلات البسيطة هي الأقرب الى الحقيقة.
المصدر: الحياة