المعجم العربي بين الذاكرة والوعي الآلي.. تأملات في حوسبة المعنى وجدلية الوجود اللغوي

آراء

خاص لـ هات بوست:

     في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي أعادت تشكيل البنية المعرفية للغة في عصر الذكاء الاصطناعي، غدت حوسبة المعاجم العربية مشروعًا علميًّا يتجاوز مجرد رقمنة المادة اللغوية إلى إعادة هندسة الوعي المعجمي نفسه وفق منطق البيانات والخوارزميات، فالمعجم لم يعد وعاءً تقليديًا لتوثيق الألفاظ، بل أصبح منظومة معرفية متكاملة، تتفاعل مع أنظمة التعلم العميق ومعالجات اللغة الطبيعية في بناء نماذج تفهم العربية ليس على مستوى الشكل فحسب، بل على مستوى الدلالة والسياق والتداول، ومن -هنا- تبرز إشكالية مركزية: كيف يمكن مواءمة البنية المعجمية العربية – بما تحمله من تراث صرفي ودلالي عميق – مع منطق الخوارزميات الاصطناعية التي تستند إلى الإحصاء والتعلّم الذاتي؟.

إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي استراتيجيات متعددة تجمع بين النمذجة اللغوية والتحليل الخوارزمي والتصميم البنيوي للبيانات، في إطار مشروع معرفي يسعى إلى تحويل المعجم العربي من مخزون وصفي إلى كيان ذكي قادر على الفهم والإنتاج والمقارنة، وبذلك تنتقل العربية من مرحلة (التمثيل النصي) إلى مرحلة (التمكين الخوارزمي).

      وتُعدّ حوسبة اللغة العربية أحد المسارات البحثية الحديثة التي تهدف إلى تحويل اللغة من نسق رمزي بشري إلى منظومة رقمية قابلة للمعالجة الآلية، وقد نشأت هذه الفكرة في سياق التفاعل المتزايد بين اللسانيات الحاسوبية وعلوم الذكاء الاصطناعي، حيث تبلورت الحاجة إلى تمثيل الظواهر اللغوية تمثيلًا رياضيًّا ومنطقيًّا يسمح للحاسوب بفهم اللغة الطبيعية وتحليلها واستنتاج المعاني منها.

في البداية اتسمت الجهود العربية في هذا المجال بالطابع التجريبي، إذ انحصرت في محاولات محدودة لرقمنة المعاجم الورقية وتخزينها في قواعد بيانات نصية، غير أنّ التطور المتسارع في تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، لا سيما بعد بروز النماذج الإحصائية ثمّ النماذج التوليدية العميقة، نقل هذه الجهود إلى مرحلة جديدة أصبح فيها الهدف هو فهم بنية اللغة العربية وتوليدها آليًّا.

ومثّل مشروع “المعجم العربي الحاسوبي” في مطلع الألفية خطوة مفصلية في هذا المسار، إذ سعى إلى وضع اللبنات الأولى لتمثيل الجذر والوزن والعلاقات الصرفية والدلالية في صورة شبكية يمكن للحاسوب التعامل معها، وتطورت هذه المبادرات لاحقًا مع مشروعات أخرى.

ومع ظهور تقنيات التعلّم العميق تحولت النظرة إلى حوسبة العربية من كونها عملاً ترميزياً إلى مشروع معرفي يسعى إلى بناء نماذج لغوية ذكية قادرة على التفاعل مع النصوص العربية بمستوياتها الصرفية، والنحوية، والدلالية، والبراغماتية، وأسهمت النماذج اللغوية الضخمة (LLMs) في إحداث نقلة نوعية، حيث أصبحت المعاجم العربية أحد أهم المصادر التي تُغذّى بها هذه النماذج لتطوير قدراتها على الفهم والإنتاج.

إنّ الإطار النظري لحوسبة العربية يقوم على تكامل ثلاثة أبعاد رئيسة:

  1. البعد اللساني: الذي يحدّد القواعد الصرفية والتركيبية والمعجمية التي تحكم النظام العربي.
  2. البعد الحاسوبي: الذي يعنى بآليات التمثيل والتخزين والمعالجة والتعلّم الآلي.
  3. البعد المعرفي الدلالي: الذي يربط بين البنية اللغوية والدلالة المفهومية في بناء شبكات المعنى.

ومن خلال هذا التكامل، تتضح الرؤية المنهجية لحوسبة المعجم العربي بوصفها عملية مزدوجة: تحافظ على عمق التراث اللغوي، وتستجيب في الوقت نفسه لمتطلبات العصر الرقمي.

غير أن المعجم العربي يُعد من أكثر المعاجم اللغوية تعقيدًا من حيث بنيته الصرفية والدلالية؛ إذ يقوم على نظام جذري اشتقاقي متفرّد يتيح توليد عدد هائل من المفردات من أصل واحد، ويعتمد على علاقات دقيقة بين الجذر والوزن والمعنى، هذه الخصوصية التي منحت العربية مرونتها وغناها المعجمي، تمثل في الوقت نفسه تحدّيًا جوهريًّا أمام الحوسبة اللغوية، لأنها تتطلب تمثيلًا دقيقًا لتلك العلاقات بطريقة تسمح للآلة بفهم منطق الاشتقاق والتوليد والمعنى، وهذا ما يدفعني في كثير من الأحوال إلى عدم رفع سقف التفاؤل باكتمال عملية الحوسبة بشكل دقيق ومنضبط.

ولمحاولة تحويل هذه البنية المعقدة إلى نظام رقمي قابل للمعالجة الخوارزمية، لا بد من توافر مجموعة من المتطلبات المنهجية والتقنية، أهمها:

  1. إعادة تمثيل الجذر الصرفي في قاعدة بيانات علائقية تسمح بتتبع العلاقات بين الأصل والمشتقات، مع الحفاظ على العلاقات الدلالية بين الأوزان والمعاني.
  2. بناء طبقات دلالية مفهومية تستند إلى حقول المعنى والسياقات الاستعمالية، لتجاوز المعنى القاموسي الجامد نحو الفهم السياقي .
  3. وضع معايير ترميز لغوي موحدة تسهّل تبادل البيانات بين المشاريع الحاسوبية المختلفة وتضمن قابلية التشغيل البيني.

إنّ تحويل المعجم العربي إلى بنية رقمية لا يعني فقط نقله من الورق إلى الشاشة، بل هو تحوّل معرفي من المعجم بوصفه كتابًا إلى المعجم بوصفه شبكة ذكية من العلاقات والمعاني، وبهذا يصبح المعجم العربي نواةً لإنتاج البيانات اللغوية المهيكلة التي تحتاجها خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تطبيقات الفهم الآلي والترجمة، مع استشعار أنّ مواءمة هذه النماذج الخوارزمية مع المعطيات اللغوية العربية تمثل تحديًا علميًّا ومعرفيًّا؛ فالعربية تتميز ببنية صرفية وجذرية تختلف جذريًا عن اللغات الغربية التي صُممت وفقها معظم الخوارزميات، فالنموذج الخوارزمي في الأصل يتعامل مع وحدات سطحية تعتمد على الإحصاء والتكرار، بينما تتطلب العربية تحليلًا عميقًا للبنية الداخلية للكلمة قبل الوصول إلى المعنى، كما أنّ بناء تمثيلات دقيقة للمعنى العربي يستلزم معالجة التعدد الدلالي والاشتراك اللفظي، فضلاً عن تمثيل العلاقات السياقية التي تتجاوز القاموسية إلى الفهم التداولي، وهو أمر ما تزال النماذج الآلية تواجه فيه صعوبة كبيرة، نظرًا لافتقارها إلى الذكاء السياقي العميق الذي تمتاز به الذهنية البشرية.