كاتب سعودي
دائماً ما يُنظر إلى فكرتي المقاومة والثورة بشكل رومانسي، يكاد يقارب صورة سينمائية. فالثوري يظهر مدافعاً عن المضطهدين والمحرومين، ويقف في وجه الطغيان، وربما كان يدخن السيجار الكوبي كما في صور تشي جيفارا، هذا ما يتبقى من الثوري في الروايات والأفلام السينمائية، وغالباً ما يتم تجاهل الدماء التي تسيل، والأبرياء الذين يقتلون، والعذابات التي يعانيها الشعوب؛ من أجل تحررهم. من هنا ترسَّخت صورة جيفارا كمقاوم للهيمنة الأميركية، من دون الخوض في تفاصيل مقاومته. الصورة السينمائية للمقاوم ليست ساخرة كلية، فهناك من يعتقد بعصمة «ما» للثوريين والمقاومين. هناك من يرى أي مقاومة لقوى مهيمنة هي بالضرورة نزيهة وعظيمة، ويجب أن يُنَاضَلَ من أجل الدفاع عنها وتلميع صورتها، حتى لو تلبست بكل أوصاف الرداءة، لكن الأحداث دائماً ما تخذل مثل تلك التصورات التي تحاول أن ترى الكون بشكل مبسط. كما أن هناك ثواراً ضد الاستبداد؛ يسعون لترسيخ استبدادهم وطغيانهم الخاص، هناك من يقاوم قوى الهيمنة لمصلحة هيمنة أخرى، أو مشاريع تقسيمية طائفية. هنا يكون الترجيح بين مشروعين سيئين لا بين مشروع جيد وآخر رديء. ففعل المقاومة لن يكون مرجحاً.
كان أبو مصعب الزرقاوي في العراق مشروع مقاومة للمحتل الأميركي، لكن هذا المشروع – بعكس مقاومين آخرين – استثمر في الحرب الطائفية الأهلية العراقية. بالتأكيد لا يتحمل الزرقاوي وزر الحرب الأهلية في العراق وحده، لكنه كان لاعباً أساسياً فيها، مع فيلق بدر وميليشيات دينية شيعية أخرى، إضافة إلى لعب المحتل الأميركي على وتر هذه التناقضات، من أجل تجنيب الجيش الأميركي الخسائر الفادحة التي لحقت به.
المقاومة التي جاء من أجلها الزرقاوي ابتداءً لم تمنحه صك طهارة وغفران إلى الأبد. فمقاومته تحولت إلى حرب أهلية، ومحاولة تحرره من الغزو الأميركي تحول إلى قتل عراقيين أبرياء.
ما ينطبق على الزرقاوي ينطبق على داعش، الذي جاء – كما يقول – ليكسر حدود سايكس – بيكو. ويواجه الهيمنة الأميركية والإيرانية في المنطقة، ويعيد بناء الخلافة وتطبق الشريعة.. إلخ من هذه الشعارات البراقة. وهي بهذا المعنى حركة مقاومة لهيمنة هؤلاء الفاعلين في المنطقة العربية، لكن لو نظرنا إلى الجانب الآخر لرأينا أن هذه المقاومة ليست لمصلحة مشروع أفضل من المشاريع القائمة. فداعش يدعو إلى نظام استبدادي لا يختلف عن النظم التي يدعي مقاومتها في العراق وسورية. وداعش ينتهج نهجاً مضاداً للمجموعات السكانية الأصيلة في المنطقة، والأقليات التي تقطن في العراق والشام منذ آلاف السنين، فيقوم بقتالها وتهجيرها لأسباب دينية وسياسية. إضافة إلى الحكم بالرعب من خلال قتل كل من يقف يعارضه بغض النظر عن الدين والهوية الطائفية. إلى جانب تبني سياسات يراد منها إشعال حروب أهلية في المنطقة بشكل مباشر، كما باستهداف المساجد في السعودية والكويت أخيراً.
من هنا، مقاومة داعش لهيمنة آخرين على المنطقة، ومحاولة إفساد مخططاتهم، لن تكونا يوماً سبباً لتقبل مشروع داعش التدميري أو الوقوف إلى جانبه ومساندته، فالأمر يشبه الاستعانة بقاتل للتخلص من آخر، أو التخلص من حكم مستبد علماني للقبول بحكم مستبد إسلامي في سورية، أو التخلص من حكومة طائفية شيعية مجرمة في العراق لتحل محلها حكومة متزمتة مجرمة سنية.
هذا الحديث ينطبق على حزب الله في المنطقة، وليس لبنان، فالحزب أصبح حاضراً في كل الصراعات. فمشروع حزب الله لمقاومة الهيمنة الصهيونية – الأميركية في المنطقة ينحل ليصبح دعماً للهيمنة الإيرانية. فحزب الله حزب مقاوم ولا شك، لكنه طائفي، وأداة من أدوات الهيمنة الإيرانية في المنطقة، وداعم رئيس للاستبداد والطغيان في سورية، ومؤيد للحكومة الطائفية في العراق والحشد الشعبي وجرائمه، بل يكرم رموز هذا النظام كنوري المالكي، على رغم كل جرائمه في حق المنطقة لا العراق وحده.
مقاومة الكيان الصهيوني لم تعد تعطي «شيكات على بياض»، والحديث عن توحيد القوة ضد الكيان الصهيوني لم يلتزم بها حزب الله نفسه عندما أصبح يقاتل في دمشق من أجل تحرير القدس، كما قاتل قبله صدام حسين في الكويت لتحرير الأقصى. فالحزب أصبح جزءاً رئيساً في الحروب الأهلية الطائفية في المنطقة، وأداة من أدوات ترسيخ الاستبداد والطائفية والهيمنة الإيرانية. وكل هذا لن يغفره أي فعل مقاومة. كما لم تغفر مقاومة الاحتلال الأميركي الجرائم الطائفية للزرقاوي. وكل أحاديث الحزب عن توحيد الصف لمواجهة العدو، لم يلتزم هو نفسه بها، كما لم يلتزم سابقاً بعدم استخدام السلاح في الداخل اللبناني، وكما ينافق في موقفه من الدولة اللبنانية التي يطلب منها تارة لعب دورها، في الوقت ذاته الذي يرفض فيه الخضوع لها.
المقاومة ليست طقساً دينياً متى ما انخرط فيه الإنسان تطهر من الذنوب والخطايا. والوصف لا يحمل صفات تقديس أو تدنيس. قد تكون مقاوماً ولكن بمشروع رديء، قد تكون مقاوماً ومنخرطاً في حرب أهلية طاحنة، وقد تكون مقاوماً لهيمنة، لكنك تسعى لترسيخ هيمنة أخرى، لا لمصلحة استقلال أو سيادة أحد. كما قد تكون مقاوماً بمشروع بناء أوطان وتحررها.
المصدر: الحياة