كاتب وأكاديمي ومفكر إماراتي
يُعَدُّ الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، من أهم الذين صنعوا التاريخ، وأحد بُناة الدول العظام، في منطقتنا والعالم، فهو مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة، وواضع الأسس القوية لنهضتها، بكل ما يحتاجه ذلك من صفات متفردة وعزيمة جبارة، لأن توحيد هذه المساحة الواسعة من الأرض بكل تنويعاتها المناطقية والقبلية والطائفية في وطن واحد تحت راية واحدة، في ظل ظروف صعبة ومعقدة، لا يمكن أن يقوم به إلا قائد استثنائي وزعيم غير عادي لا يتكرر كثيراً في تاريخ الأمم والشعوب، ولذلك يمكنني أن أقول بكل ثقة: إن الملك عبدالعزيز هو واحد من أعظم شخصيات القرن العشرين.
كانت الوحدة هي محور تفكير الملك عبدالعزيز آل سعود وحركته على مدى المراحل المختلفة من حياته، وتُعَدُّ المدخل الأساسي لفهم شخصيته، فقد آمن بالتعايش بين المذاهب والطوائف وعمل على ترسيخ هذا المبدأ بشكل عملي، ونجح في إقامة دولة قوية على مساحة كبيرة من الأرض بعد أن لملم شتات قبائلها ومناطقها وطوائفها، على الرغم من التحديات الضخمة التي واجهته والعقبات الصعبة والمتشعبة التي اعترضت طريقه، لكنها انهزمت كلها أمام إرادته القوية، ولم تستطع أي قوة، داخلية أو إقليمية أو دولية، أن تقف في وجه هدفه الذي رسمه لنفسه منذ وقت مبكر من حياته، وهذه هي سمة بُناة الدول وموحدي المناطق والشعوب في تاريخ العالم كله، قديماً وحديثاً.
إن نبل الأهداف ليس كفيلاً بذاته للنجاح في تحقيقها، وإنما يحتاج الأمر إلى حنكة وعزم وبصيرة نافذة وقدرة على استثمار القدرات وتعبئة الموارد، سواء كانت بشرية أو مادية، وهذا ما يتجسد خير تجسيد في سيرة الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود. فعلى المستوى الداخلي يذكر المؤرخون العرب والأجانب الذين كتبوا عنه ودرسوا سيرته ومسيرته، أنه، رحمه الله، كان عبقرياً في اختيار معاونيه ومستشاريه، سواء من داخل المملكة أو خارجها، وبارعاً في معرفة معادن الرجال الأوفياء المخلصين، سواء في ميادين الحرب أو البناء والتعمير، وقريباً من الناس ليس بينه وبينهم حواجز أو حجب، ولديه قدرة كبيرة على احتواء مخالفيه وتأليف قلوب المتصارعين والمتحاربين، فضلاً عما اتصف به من شخصية كاريزمية جمعت بين التواضع والبساطة والهيبة في الوقت نفسه.
وإضافة إلى كل ما سبق، فقد كان الملك عبدالعزيز يؤمن بأنه صاحب رسالة تقوم على بسط الأمن والاستقرار والسلام في شبه الجزيرة العربية، ويُنقل عنه في هذا الشأن قوله: «إننا آل سعود لسنا ملوكاً ولكننا أصحاب رسالة».
وعلى المستوى الخارجي عرف الملك عبدالعزيز، بذكائه وفطنته، وكيف يقرأ معطيات البيئة الإقليمية والعالمية المحيطة ويتعامل مع توازناتها بذكاء كبير منع تعريض ملكه للخطر أو التهديد، وكان محنكاً في حساب خطواته السياسية والعسكرية بدقة وروية، سواء في العلاقة مع الأتراك العثمانيين أو مع القوى الدولية الكبرى وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، أو في موقفه من الصراعات والحروب في المنطقة والعالم، وهذا ما ضمن له الاحترام والتقدير على المستوى الخارجي، وجعل المملكة العربية السعودية منذ وقت مبكر من تاريخها طرفاً مهماً في حسابات القوى الدولية الكبرى وسياساتها تجاه المنطقة العربية بشكل خاص ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وهذا ما يؤكده اللقاء الذي جمع الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت عام 1945 على متن المدمّرة الأميركية «كوينسي» في «البحيرات المرة» في جمهورية مصر العربية، حيث كانت الولايات المتحدة الأميركية تستعد لوراثة الإمبراطورية البريطانية في لعب دور القيادة في العالم، وتهتم بالدول المهمة والقادة أصحاب التأثير في مناطقهم، وفي مقدمتهم الملك عبدالعزيز آل سعود.
وإذا كان الملك عبدالعزيز آل سعود قد اتسم بالفهم العميق للتوازنات في المنطقة والعالم، والبراعة في التعامل مع القوى الكبرى، فإن هذا لم يمنعه من الحسم واتخاذ المواقف القاطعة من دون النظر إلى نتائجها وعواقبها، حينما يتعلق الأمر بالقضايا القومية الأساسية وفي مقدمتها قضية فلسطين، وسوف يظل التاريخ يذكر كلماته القوية التي تعبّر عن شجاعة ملك عربي وفروسيته ويعرف قدره وقدر أمته، في رده على رسالة الرئيس الأميركي هاري ترومان في فبراير من عام 1948 التي طلب فيها منه التدخل في فلسطين لوضع حد لما سماه «الحرب الأهلية الناشبة في الأرض المقدسة بين أهلها العرب واليهود»، حيث قال الملك عبدالعزيز آل سعود في خطابه إلى ترومان، وليسمح لي القارئ الكريم بالاقتباس حرفياً: «ما كادت تتلى عليّ الرسالة حتى عجبت أشد العجب من أن يبلغ بكم الحرص على إحقاق باطل اليهود إلى حد أن تسيئوا الظن بملك عربي مثلي لا تجهلون إخلاصه للعروبة والإسلام»، وأضاف «أما ما ذكرتم من المصالح الاقتصادية التي تربط بلدينا، فاعلموا أنها أهون في نظرنا من أن نبيع بها شبراً واحداً من أرض فلسطين العربية لمجرمي اليهود، ويشهد الله أنني قادر على أن اعتبر آبار البترول كأنها لم تكن».
لقد كتب الكثير، بلغات عربية وأجنبية، عن حجم التحول الذي أحدثه مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة في تاريخ الخليج العربي والمنطقة العربية، وما وضعه من أسس قوية لاستقرار بلاده وتنميتها ووحدتها، وما تركه من تراث سياسي وعسكري ثري وغزير، لكن شخصية بحجم وتأثير الملك عبدالعزيز آل سعود وعظمته تظل دائماً في حاجة إلى المزيد من الدراسات والبحوث العلمية للإحاطة بها والتعرف على جوانب التميز والتفرد فيها، وهذه دعوة للباحثين العرب في كل المجالات للتوسع والتعمق في دراسة سير العظماء في منطقتنا العربية، وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة، حتى تعرف الأجيال الجديدة حجم الجهود والتضحيات التي بذلت في بناء أوطانها وتعزيز وحدتها واستقرارها، لتكون حافزاً لها للتصدي بقوة وإخلاص لأصحاب أطروحات الفوضى والتخريب والأجندات المشبوهة.
المصدر: الاتحاد