الملك سلمان يواصل النهج: وداعاً… أبا متعب – بقلم: هدى الخميس كانو

أخبار

للثقافة أثرها البالغ في فتح نوافذ واسعة للتنوير وبناء جسور التواصل بين شعوب الأرض، متخطية الفوارق الطبيعية بين الحضارات والمعتقدات. ومن يتبنّى مسؤولية العمل الثقافي لا بد أن يدرك حجم المسؤولية الوطنية والإنسانية تجاه مجتمعه والأجيال المقبلة.

برحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، فقدت الأمة العربية بل العالم بأسره، رجلاً حكيماً، وقائداً شهدت في عهده المملكة العربية السعودية، منجزات بارزة في مختلف المجالات. كم أننا خسرنا الكثير برحيل الملك الإنسان عبد الله بن عبد العزيز آل سعود.

وكان الملك عبد الله، رحمه الله، أولى اهتماماً خاصاً بالتعليم، إيماناً منه أن بالعلم تُبنى العقول النيّرة، وتقصّر المسافات بين الحضارات ويسود السلم والخير العالم كله. وشهد المغفور له «ولادة الحلم» الذي راوده لأكثر من 25 عاماً يوم افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، لتكون صرحاً عالمياً يجتذب المواهب الكبيرة في المملكة والعالم ويطورها، ومكاناً يستثمر في العقول الواعدة ويفتح أمامها أبواباً واسعة من الأمل. ليس هذا فقط، إذ وصل عدد الجامعات الحكومية والأهلية في عهده الى 32 صرحاً جامعياً، ما يؤكّد أن التعليم عماد النهضة ومحفز الإبداع، واللبنة التي ينبثق منها الأمل لأجيال تحلم بمستقبل واعد ومشرق.

وفيما شهدت مشاريع البنى التحتية في عهد الملك عبد الله قفزات كبرى، كان رحمه الله واضح الاهتمام بمشاريع تنموية تُعنى بانفتاح المجتمع تدريجاً على أفكار جديدة تُمكن المجتمع من النهوض فكرياً وحضارياً. وكان دخول المرأة مجلس الشورى وحصولها على 20 في المئة من مقاعده، رسالة تحديث وتطوير واضحة، وخطوة أكدت إيمانه العميق بأن المرأة المسلمة يمكنها أن تلعب أدواراً مهمة في التنمية والبناء كما كانت تفعل في العصور الإسلامية الزاهية، وتلك مزاوجة منطقية ومنسجمة بين قيم المجتمع ومفاهيمه من جهة وضرورات التطور والتقدم من جهة ثانية. لقد كان، رحمه الله، حليفاً صادقاً للمرأة بحكمته، مُدركاً أهمية الدور التنموي الحيوي الذي يمكن أن تلعبه في المملكة وضرورة إشراكها في حراك المجتمع من دون مصادمة أو تعارض مع قيم المجتمع وعاداته وتقاليده. لقد حققت المرأة السعودية في عهد الراحل قفزات نوعية في حضورها المؤثر في الداخل والخارج فقرأنا عن الطبيبة السعودية المتميزة وعرفنا عن الإعلامية السعودية المؤثرة والأستاذة الجامعية المتفوقة والمربية الفاضلة وسيدة الأعمال التي لا تقل كفاءة عن مثيلاتها في أي مكان آخر في العالم. نعم، الملك عبد الله دعم المرأة السعودية بصدق وإيمان عميق بدورها – مثلها مثل أخيها الرجل – في نهضة الوطن.

ومن منطلق قناعته بوسطية الدين واعتداله وتسامحه، اهتم الملك الراحل بالحوار بين الأديان والحضارات وشجع عليه كخطوة مهمة في طريق تلاقي وتكامل الحضارات والثقافات المختلفة. وعكس مركز الملك عبد الله لحوار الأديان في فيينا توجهه نحو تعزيز القيم الإنسانية لدى المجتمعات والتركيز على المشتركات الإنسانية التي تجمع ولا تُفرق، تُقرّب ولا تُبعد. وفي خضم دعوات الكراهية وأعمال العنف حول العالم، أتت مبادرات الراحل رسائل إنسانية تعكس سماحة الإسلام ووسطيته.

أما داخل المملكة، فإن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، الذي أسسه الملك عبد الله عام 2003، عندما كان ولياً للعهد، منصّة حقيقية توفر بيئة داعمة للحوار الوطني بين جميع أفراد المجتمع من خلال الحوار الفكري الهادف والبنّاء. وتلك خطوة حضارية تؤسس لثقافة تحتفي بالتنوع الفكري وترى فيه قوة للمجتمع وصمام أمان في وجه الفكر الأحادي الإقصائي.

وأولى الراحل اهتماماً واضحاً للعلم والثقافة فى المملكة. وكان صاحب فكرة المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذى يقام سنوياً فى الجنادرية، ويعد من أبرز المهرجانات الثقافية العربية، ويستقطب العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين من أنحاء العالم. ولما للملكة العربية السعودية من مكانة على المستويين الإسلامي والعالمي، خصوصاً أنها راعية الحرمين الشريفين، فقد كانت لمبادرات الملك عبد الله الثقافية والفكرية، محلية كانت أم عالمية، أصداء إيجابية واسعة على مستوى العالم كله، ما ساهم في بناء جسور من التفاعل الإيجابي بين الثقافات وسحب البساط من تحت أقدام دعاة صراع الحضارات. وفي رؤيته ضرورة تجديد الفكر التنويري مع الحفاظ على أصالة الموورث الحضاري، قال الملك الراحل: «إن عصرنا هذا توسع في نقل الأفكار بانفتاح لم تعهده الإنسانية في تاريخها فهل نجفل منها؟ أم نفتح بيتنا التاريخي وميراثنا العظيم، لنرى دورنا الكريم وشراكتنا الإنسانية في أروع القيم والمفاهيم والمسؤوليات، وهي تتصدى لدورها الأخلاقي بثوابت دينها الإسلامي».

وختاماً، إن مما يخفف ألم الفقد الكبير في الملك الراحل هو حضور الملك سلمان بن عبد العزيز الذي كان اسماً لامعاً في المملكة وخارجها منذ عقود. فهو صديق الإعلام والثقافة، وهو صاحب الخصال الإنسانية النبيلة التي يعرفها أهل الرياض جيداً. وقد كان أميراً للرياض لخمسة عقود شهدت فيها العاصمة السعودية أكبر ملامح التطور العمراني وصارت مركزاً مالياً وسياسياً عالمياً. ومن عاش في الرياض يحس دوماً بقرب الملك سلمان الذي يعرف أهل الرياض جيداً ويرتبط بعلاقات محبة مع أهل مدينته التي بناها شبراً شبراً وعرف أهلها بيتاً بيتاً. والملك سلمان بن عبد العزيز لا شك سيكمل مسيرة أسلافه في البناء والتواصل، وسيواصل السير على نهج الملك الراحل في الانفتاح الواثق على العالم والسعي بثقة نحو المستقبل.

رحم الله الملك عبد الله بن عبد العزيز وسدّد خطى الملك سلمان بن عبد العزيز.

المصدر: الحياة