كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
بدأت بكتابة مقالي في شرفة مطلة على مدينة أوسلو، منظر رائع، بحر وبحيرات وخضرة على مد البصر، المدينة أنيقة ولكن ليست فارهة، على رغم أنها تنفق الكثير في بناء معالم حضارية عدة، آخرها دار الأوبرا.قال لي رفيقي الفرنسي في الرحلة، هذه المدينة تذكرني بدبي، كلما زرتها أجد فيها شيئاً جديداً، لم أشاركه الرأي، فهي مدينة أوروبية ثرية، ولكن بدون مبالغة، يختلف الأوروبيون عن العرب والأمريكيين في إنفاق المال، إنهم يضعونه في المكان الصحيح.
إيرلندا مثلاً، وهي مديونة اليوم بسبب إنفاقها المبالغ فيه في زمن الرخاء، إلا أن مشاريعها لم تكن عبثية، بنت شبكة طرق ممتازة ستبقى لأجيال قادمة، دبلن تكاد تكون متواضعة، هل هو بخل؟ هل من الضروري عندما ينعم الله عليّ أن أعيش في قصر منيف على 10 آلاف متر مربع، مغني البوب الراحل مايكل جاكسون فعل ذلك، ولكن «وران بوفيت»، وهو أغنى منه، لا يزال يعيش في بيته المتواضع الذي اشتراه قبل 54 عاماً، إنه ليس متواضعاً تماماً، إذ أجرى عليه تحسينات، ولكن يظل بيتاً عادياً بالمقارنة ببيوت بعض محدثي النعمة.
كم يحتاج الإنسان مساحة ليعيش سعيداً؟ ليس هذا موضوعنا، وإنما حديثي عن النرويج، كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً عندما بدأت أكتب موضوعي هذا، وكل ما حولي يوحي بأن الوقت لا يزال عصراً، ذلك أن النرويج في أقصى الشمال الأوروبي، تغرب الشمس قبل منتصف الليل بقليل، ويبقى الشفق ممتداً في السماء معظم الليل، فكرت في المسلمين هناك، وما أكثرهم، فلقد باتت قبلة للمهاجرين المسلمين الذين ضاقت بهم بلدانهم التي أكلتها الحروب والفتن، الفتوى السائدة أنه ماداموا يرون غروباً وشروقاً، فعليهم الصيام طوال النهار، أي حوالي 21 ساعة، أعانهم الله.
ولكنهم أيضاً ينعمون بأفضل رعاية اجتماعية في أوروبا، إذ إن العلاج والتعليم مجاني، ورواتب المتقاعدين الأعلى في العالم.
سر نجاح النرويج، أنها دولة نفطية لم تستسلم للنفط، ثقافة العمل لا تزال سائدة هناك، فالبطالة لا تزيد على 4 في المئة، بل إنهم مثلنا يحتاجون لاستقدام العمالة الأجنبية، ولكنهم في الواقع لا يستقدمونهم، إذ يأتي شباب وشابات من السويد المجاورة للعمل في أوسلو، ذلك أن ثمة اتفاقيات بين البلدين بحرية التنقل تسمح بذلك، فالأجور فيها أفضل من بلادهم، بعضهم يعمل ليوفر تكلفة رحلة يحلم بها، وآخر لتغطية مصاريف التعليم، ومن يستقر فيها لأكثر من عام يستطيع حتى أن يُشارك في الانتخابات المحلية.
فكرة تستحق أن نفكر فيها، يتعامل النرويجيون مع النفط أنه رزق إضافي من الله، فلا يدخل ميزانية الدولة غير 4 في المئة فقط من دخل النفط، والباقي يحول لصندوق استثماري سيادي للأجيال المقبلة، فكرة عظيمة في «زمن دوار»، وبالتالي منعوا تسرب فكرة الدولة الأبوية الراعية، فحافظوا بقوة على مهنهم التي احترفوها قبل النفط مثل النقل البحري وصناعة السفن.
دعاني صديقي النرويجي مع آخرين في زورقه الشراعي رحلة رائعة ومنعشة، الشمس ساطعة والهواء نقي بارد، يقول إن من بين كل أسرتين هناك، تمتلك واحدة «بوت»، ومن هناك إلى مطعم وسط جزيرة، الوليمة كانت أطباقاً من المأكولات البحرية، تناولناها بأيدينا تكسيراً نستخرج من بين قشورها لحمة بيضاء طيبة لذيذة تسر الناظرين.
ذكرني المنظر بعد قليل بنا في البر، وقد تحلقنا حول خروف نفصفصه فلا نتركه إلا وقد تحول إلى كوم يشبه كوم القشريات والأصداف التي تركتها على مائدة في «أوسلو».