كاتب و باحث سعودي
مع الكلفة المتزايدة لتحولات الواقع العربي، والتي ربما تبقى على المدى المنظور في واقع مشابه أو أسوأ من مرحلة الاستقرار العربية الطويلة التي تعفنت فيها بعض الأنظمة دون أن تشعر، ومع كل محطة تاريخية منذ دخولنا الأزمنة الحديثة قبل أكثر من قرن، ما زالت كثير من الأحلام المتواضعة للتدرج بسلك الحضارة عصية، على الرغم من أن مقوماتها الأولية ليست بحاجة إلى إعادة اختراع!
هذا العجز المتكرر يضغط على وعي المثقف في هذه اللحظة، ويربك رؤيته وخياراته، ومع صعوبة مواجهة هذا الواقع الذي يزداد تعقيدا، وتساقط الكثير من رفاقه في مسار نفعية ضيقة جدا على حساب مصالح مجتمعه. قد لا يشعر المثقف بقيمة احتفاظه بقدراته في تقديم خطاب فكري حقيقي وواقعي لعلل التأخر، وإحساسه بمسؤولية الكلمة، وأن طرحه ليس للمزايدة الشعاراتية أو السلطوية.. وكيف يقدر أن صموده مع آخرين في مقاومة الإحباط يسهم في رعاية الرؤى الحضارية وشروطها بدون تزييف. لست مؤيدا للرؤى المتفائلة غير الواقعية، وإنما من أنصار قيام المثقف بدوره، وأن لا يتنازل عنه تحت أي إحباط وظروف قاهرة، وكل فشل يجب أن يزيد من إصراره.
منذ بدايات الوعي الخاص ظلت أفكار نص لجمال الدين الأفغاني (ت 1897م) عالقة في ذهني، كنت أتعجب كيف قال هذه الأفكار في نهايات القرن التاسع عشر، وهي تنطبق على مجتمعاتنا قبل عقود وما زالت. قالها وهو يبدو محبطا من الواقع، ويصور فيها ملامح الفشل النهضوي المبكر جدا «لقد ظن قوم في زماننا أن أمراض الأمم تعالج بنشر الجرائد وأنها تكفل إنهاضها وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق لكن أين من يقرأ ومن يكتب فضلا عمن يفهم! ..». «لقد نقل العثمانيون والمصريون عن الغرب المدارس الحديثة والعلوم والصنائع والآداب وكل ما يسمى (تمدنا) لكن هل نجو بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم ؟ … هل نالوا من المنعة ما يدفع غارة الأعداء عنهم؟ … نعم، ربما وجد بينهم أفراد يتشدقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما شاكلها، ويصيغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها ووسموا أنفسهم: زعماء الحرية، أو بسمة أخرى من السمات … ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا أوضاع المباني والمساكن وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية، وعدوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة، فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم … وأماتوا أرباب الصنائع من قومهم ..»
المسافة العربية بيننا وبين هذا النص للأفغاني ما يقارب من 120 عاما، وما زال معبرا في مضمونه عن كثير من أخطائنا النهضوية، ويمكن إعادة التغريد فيه بالأفكار نفسها، مع تعديلها بمفردات حديثة! تكرر طرح هذه الأفكار على امتداد قرن من الزمان، هذا النص يعزز الإحباط، خاصة أننا نرى التجارب الأخرى من مختلف دول العالم غير الغربي في آسيا وغيرها شقت طريقها بما فيها تركيا نفسها، فتبدو الحالة العربية كشذوذ محير.
ولو أردنا استحضار علل مجتمعاتنا العربية، والعوائق التي تتطور من مرحلة إلى أخرى، وتعيد إنتاج تخلفها تحت رعاية نخب وقيادات فاشلة على امتداد أكثر من قرن، فسنجد الكثير مما يقوي حالة الإحباط.
لكن هل اليأس خيار جيد أو عملي للمثقف ولمجتمعه!؟ يمكن صناعة آلاف النصوص في إشاعة اليأس والتباكي ..والإبداع فيه، والواقع أن المشكلة ليست في هذا الخطاب وسهولته وجاذبيته للبعض، والذي أخذ يتطور وينتشر رواده مع كل نكسة وأزمة عربية. هو أحد خيارات المثقف في التعبير، لكن المشكلة في أن هذا الخطاب المحبط، لا يكتفي بحالة التباكي العاطفي، وإنما يبدأ في تصوير الواقع، وتقييم الأخطاء بطرق مغالطة فيها، وتوجيه الخطأ بصورة انتقائية ونفعية له. المسألة هنا ليست ذما لجلد الذات، فما زلنا بحاجة لهذا الجلد، لأنه أساس جوهري لأي تقدم ونهضة، لكن الذي يحدث أنه تحول إلى استعمالات غير بريئة، لتبرير أخطاء شخصية، أو واقع سيء لمواجهة أي دعوة للتطوير والتغيير.
لم يمض على بعضهم بين اهتمامه بقضايا التنمية والنهضة وبين يأسه وتسويقه للإحباط سوى سنوات معدودة، ليبدأ بهجاء الواقع ونهاية دور المثقف. هل انتهى فعلا دور المثقف ولم يعد له جدوى مع هذا الزخم المعلوماتي غير المحدود؟! في برنامج «واجهة الصحافة» عام 2011م، ومع ذروة الحماس بمواقع التواصل .. حاول البعض حينها تهميش دور المثقف، وقد اعترضت على هذه الفكرة في البرنامج، وأشرت فيه بأن الدور التقليدي سيظل مهما ولن ينتهي، لأنه مع الحماس الجماهيري خلط كثيرون بين دور المثقف الجديد الناشط في مواقع التواصل، وهو مثقف اللحظة، والمسوق للأفكار كجزء من الحدث، وبين الدور الحقيقي للمثقف في التحليل وصناعة الأفكار في الظل، وهو الأخطر دائما في تغيير مسار البشرية.
المصدر: صحيفة مكة