الحوار الذي أجراه الإعلامي «سليمان الهتلان» مع المفكر السياسي الدكتور«نصر محمد عارف» لبرنامج «حديث العرب» على قناة سكاي نيوز ـ عربية قبل نهاية العام الفائت، وتحديدا في 27 ديسمبر الماضي، وحمل عنوان: «سوريا.. من الأسد إلى الجولاني وفشل مفهوم الدولة»، مهم ومثير للانتباه وللتفاعل الإيجابي معه، لجهة امتطاء المعرفة واتِّخاذها سبيلًا لإدراك مستجدات «لحظتنا العربية الراهنة»، وطنيًّا، وقوميًّا، وعالميًّا أيضا.
أهمية الحوار تكمن في عمق الأسئلة التي طرحها الهتلان، وهو ينوب عنا ـ نخب، سياسيون، إعلاميون، وشعوب ـ دون أن يفقده ذلك خصوصيته الإعلامية والفكرية والبحثية، وهي بالتأكيد نتاج جهد بحثي متراكم تحرِّكُه تجربته على الصعيدين العربي والدولي من جهة، وقناعات منابعها شتى وكذلك مصابها من جهة ثانية.
الهتلان في هذا الحوار يعيد بالنسبة لي ما سبق أن كتبت عنه في نوفمبر 2016م من أنه «يشكل اليوم في واقع الإعلام المرئي العربي، وتحديدا البرامج الحوارية، حالة من الاستقرار النسبي في مناخ عام يطغى فيه العنف على الحوار، والإقصاء على الاقتراب، والنكران على الاعتراف، والتيه على الرشاد».
بهذا المعنى يمكن اعتبار الهتلان مختلفا لما هو سائد في الحالة الإعلامية العربية، نستشفّ ذلك من خلال التساؤلات الكبرى التي يطرحها على ضيوفه في برامجه، والتي تمثّل في الغالب إشكاليات يمكن التأسيس عليها أكاديميًّا ومعرفيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا للخروج من الأزمة الراهنة، إذا نظر إليها من زاوية التغيير وليس من باب الاستعراض النظري، أو المتعة الفكرية، أو النجومية المُتضَخّمة.
أما ما ذُكر في إجابات الدكتور نصر عارف في هذا الحوار، فقد جاء دالاًّ ومرشدًا لنا في زمن التيه العربي ـ سياسيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا وأيديولوجيًّا وحتى عسكريًّا ـ في ظل سفاهة قوم منا وتكالب أمم شتى علينا، كما قدم لنا قراءة لمصيرـ مصائرـ الدولة الوطنية العربية في فشلها عبر عدة أمثلة ونماذج قائمة اليوم، تحل فيها الميليشيات بدل الجيوش، والجماعات الدينية المتطرفة والإرهابية بدل الحكومات والجيوش، و«كيانات شبه الدولة أو أقل منها» بدل الدولة.
يُشخِّص عارف أزمة الدول الوطنية وطبيعة السلطة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، قياسًا على الحالة السورية الراهنة، وذلك ضمن تصورــ سبق أن كتبت عنه في أكتوبر 2015م ــ يحقق رؤيته الشاملة التي يدعو فيها، بل ويعمل لأجل «قراءة متجددة لكل قضايانا، خاصة لتلك التي هي محل خصومة وخلاف بين المجتمعات المسلمة والنخب من جهة وبين الجماعات الإسلامية المتطرفة من جهة ثانية، وهي تلك التي يسميها إشكالية الطرح السياسي للإسلام وما يترتب عن ذلك من مخاطر ومزالق كوْنه يتعرض للبنية الفكرية للحركات الإسلامية المعاصرة».
هنا علينا الإقرار بـأننا تحكمنا اليوم ـ من خلال أسئلة الهتلان وإجابات عارف ـ ضرورات وجوديّة وحضوريّة بعد أحداث سوريا الحالية، سواء أظلت محافظة على البناء الكلي للدولة أم تمّ تهديمه، وبغض النظر إن بقيت على حالها في تقسيم الخرائط القديمة منذ قرن، أو طالها ما قد يُغيّرها من مواقع جديدة ـ متعاونة أو متصارعة ـ في الخرائط المنتظرة.
من ناحية أخرى، لا تكمن تجزئة أفكار ورؤى وتوقعات نصر عارف، لأنها تمثل مشروعا فكريًّا نهضويًّا، جامعًا للأصالة والمعاصرة على المستويين المعرفي والسياسي، لذا فإن الأفكار التي طرحت في حوار حديث العرب في ديسمبر الماضي تعد امتدادًا لحوار سابق له مع الهتلان في العاشر من مايو الماضي، وقد حمل عنوان: «مأساة غزة.. بكائية جديدة للإسلام السياسي».
وعلى خلفية ذلك يمكننا النظر إلى برنامج «حديث العرب»، من زاويتين، الأولى: تحقيق ما يشير إليه البرنامج منذ انطلاقه في نوفمبر 2015م، وما حققه خلال السنوات الماضية من نقاش وجدل حول جملة من القضايا المصيرية.
والزاوية الثانية: تتعلق بالحديث العربي في هذه اللحظة التاريخية الراهنة، حول مسارات ومصائر دولنا، انطلاقا من الأوضاع الحالية في سوريا أوّلًا، ومن الحالات العربية الأخرى، خاصة الفلسطينية، واللبنانية، والليبية، واليمنية ثانيًا.
بقي أن أشير هنا إلى أنه سبق أن قلت في نوفمبر 2015م إن «برنامج حديث العرب في عمومه يركز على مناقشة رؤى الكتاب والمفكرين، لكنه لا يجعلهم يطرحون بدائل، يمكن التأسيس عليها للخروج من الأزمة، وينتابني شعورٌـ أحيانا ـ بأن البرنامج يستمد شرعية وجوده من وجود الجماعات الإرهابية، حتى إذا ما غابت أو انهزمت أو تراجعت، لم تعد له أهمية تذكر، وهو هنا لا يهتم بعنف الجماعات الفكرية المختلفة ذات الأطياف والانتماءات المتعددة».
الواضح الآن بالنسبة لي، أن هناك نتيجتين توصلت إليهما، الأولى تتعلق بالمحتوى، ذلك أنه بعد استضافة البرنامج لعدد ـ غير قليل ـ من المفكرين والمثقفين العرب، أصبح عليّ لزامًا مراجعة وتصحيح رأيي السابق بما يتسق مع الرؤى والتصورات التي طرحها ضيوف الهتلان، خلال السنوات التسع الماضية، لجهة القول: أنه على خلفية المشاهدة والمتابعة مع سعي للمعرفة انتهت إلى أن هناك رؤى تنويرية قابلة للتحقق نظريًّا وعمليًّا.
النتيجة الثانية وهي: خطأ تصوري من أن جماعات تيار الإسلام السياسي ستغيب أو على الأقل ستتراجع، وأنه بانهزامها أمام المشاريع الأخرى سيفقد البرنامج القضايا التي يعمل لأجل مناقشتها، لكن الواقع الراهن أثبت عكس ذلك، فقد عادت تلك الجماعات بدعم دولي متعدد فرض علينا اليوم الاعتراف بها، بل والقبول بقيادتها للدولة الوطنية، وهذا الأمر يتطلب مواقف فكرية في مستوى الأفعال السياسية أو أعلى منها، وأحسب أن ذلك ما يعمل على أجله برنامج «حديث العرب»، من خلال ضيوفه، على النحو الذي رأيناه في الجمال المعرفي لأطروحات الدكتور نصر عارف حول هذا الموضوع، وغيرها من القضايا الشائكة لأمتنا ودولنا.
المصدر: المصري اليوم