تراجعت مكتسبات ثورة الشعب السوري كثيراً. صارت أطول الغايات وأسمى الأماني للشعب المغلوب على أمره، وقف إطلاق النار. السوريون الأحرار الذين كانوا يحاربون جيش النظام الفاقد الشرعية، والحرس الثوري الإيراني وميليشيات «حزب الله» والحشود العراقية المتأدلجة ومرتزقة باكستان وأفغانستان، وينتصرون عليهم في كل موقعة تجمعهم، تراجعوا كثيراً، واهتزت مواقفهم على الأرض بعد تدخُّل القوات الروسية بلا تفويض دولي.
جاء الروس رافعين مصالحهم الخاصة فوق أسنة سيوفهم من غير أن يمروا على مجلس الأمن، بل لم يفكروا حتى في استصدار قرار أممي بعد دخولهم يشرعن اجتياحهم الأراضي السورية. قرر فلاديمير بوتين من موسكو، أن هذا هو الوقت المناسب لقطع الطريق على أميركا في احتكار الحلول في المنطقة، فجاء حاملاً حلوله الخاصة، وزمنه الخاص، وزرعهما في قطعة الأرض التي صارت موقتاً ضمن محمياته الخاصة، جاء الروس فتبدّلت الحال رأساً على عقب.
تغيّرت الموازين والمعادلات في الأزمة السورية. تغيرت إلى الأبد، فلا موقف نظام بشار الأسد هو نفسه قبل أيلول (سبتمبر) 2015، ولا وضع الثوار هو نفسه، ولا حتى مواقف الدول المعنية بالأزمة هي نفسها قبل هذا التاريخ وبعده! انتقلت الأوضاع من حال إلى حال، فكيف على دول المنطقة أن تتعامل مع هذا الواقع الجديد؟ ما المواقف المتوقعة من الثوار السوريين وتركيا وإيران والسعودية؟
الثوار السوريون سيبقون على الموعد في كل الأحوال. لن يستطيعوا أن يواجهوا الآلة الروسية وجهاً لوجه كما كانوا يفعلون مع جيش النظام وداعميه الإقليميين من قبل، لكن في إمكانهم قلب التراب السوري على الغازي من خلال الحروب على الطريقة الأفغانية في ثمانينات القرن الماضي. الثوار السوريون في كفة ثوار أفغانستان، وروسيا في كفة الاتحاد السوفياتي، والهدف الذي جمع قلب الدين حكمتيار وأحمد شاه مسعود وبرهان الدين رباني وغيرهم من الفرقاء في أفغانستان، سيجمع فصائل الثورة السورية على قلب رجل واحد. المهم، توحيد الهدف وانتقاء الطريق المناسب لتفعيل المواجهة التي تتناسب مع طبيعة المرحلة.
ليس على السوريين، ولا ينبغي لهم الدخول في مزيد من الملهيات السياسية والديبلوماسية من أطراف لا تعي بالضبط ما معنى الخضوع لحكومة عميلة برعاية أجنبية. كثر من رعاة السلام في سورية لم يسموا الأسماء بمسمياتها حتى الآن. ليس هناك غازٍ أجنبي في تصاريحهم السياسية اليومية، وليست هناك حكومة فاقدة شرعيتها منذ أشهر طويلة في بياناتهم الطويلة! يرددون الأسطوانة نفسها التي مللنا سماعها: الحل السياسي، الحل السياسي، ولا يُعرف بالضبط ما آلية هذا الحل السياسي وشكله، والذي صار الجميع يتحدث عنه فجأة! لا جنيف 3 ولا فيينا 9. الحل هو المواجهة في طريقة تتناسب مع الواقع على الأرض، وترك مسألة التصدّي للمفاوضات السياسية للدول الصديقة للشعب السوري.
وبالنسبة الى السعودية، فإنها لم تعد تثق أخيراً في نوايا الغرب، ولم يعد في إمكانها أن تصطفّ معهم في مقابل القوى العالمية الأخرى، وبالتالي فالعداء الكامل للمرحلة الروسية الراهنة خيار غير استراتيجي، فضلاً عن أنه يأتي في سياق المقامرة السياسية التي لم يُعرف عن السعودية طوال تاريخها أن ارتهنت لها أو تبنّت استراتيجياتها.
يعرف السعوديون أن طبيعة علاقاتهم الحالية مع الغرب تستلزم ألا يديروا ظهورهم بالكامل لروسيا، فنوايا أميركا وحلفائها الأقربين تجاه المنطقة غير واضحة، ومتى ما أصبحت هذه النوايا مشاريع عدائية واضحة للعيان، فإن خيار معادلة هذه المشاريع ومقاومتها لن يؤتي ثماره كاملة ما لم تكن روسيا هي الداعم الرئيس لهذه المقاومة!
تختلف السعودية مع روسيا حول سورية، نعم، لكن قد يكون هذا الاختلاف هو بادئة الحلول! خصوصاً أن دعم الكرملين لنظام بشار الأسد يقوم على مبررات يمكن السعوديين بسهولة أن يناقشوها ويتفاوضوا حولها، على عكس دعم السعوديين للثوار السوريين، الذي يأتي مصمتاً صلباً غير قابل للاختراق أو إعادة التشكيل.
تركيا من جانبها، ستقبل الوجود الروسي في سورية كما هو، فهي في النهاية عضو في حلف الناتو، ولا تستطيع الانفصال عن واقعها هذا. تركيا تستطيع إطلاق 3 صواريخ أو أربعة على حزب العمال الكردستاني، وربما تضرب طائراتها مناطق حدودية في العراق، لكنها عندما يتعلق الأمر بروسيا لا تستطيع سوى تبنّّي وجهة نظر حلف الناتو مع قليل من المبهرات الكلامية.
أما إيران، فكانت قضية خاسرة في الثورة السورية ما قبل أيلول 2015، وصارت قضية خاسرة ما بعد الغزو الروسي الجديد، وأظن أنها ستعود لتتبنى مجدداً الفكرة نفسها التي تبنتها في العراق منذ 12 عاماً تقريباً: الاختراق الطائفي برعاية أجنبية!
المصدر: صحيفة الحياة