مديرة إدارة الدراسات الجيوسياسية في مركز "بحوث" - دبي
يبدو أن سرداً يحاكي روايات الحرب الكلاسيكية يُجرى صياغته داخل صنعاء هذه الأيام. مشهد الخيام المنتشرة على طول شارع المطار الطويل، واحتشاد الآلاف من اليمنيين على مداخل ومخارج المدينة وأمام المؤسسات الوزارية (كثير منهم يحملون الس لاح كتقليد يمني متأصل)، وانتشار مئات من الشعارات المناهضة والمؤيدة للحكومة في طرقات وأزقة صنعاء. كل ذلك يثير سؤالاً رئيسياً: من الذي سيحارب ومن الذي سيعلن الاستسلام؟
رسائل التحذير والتهديد التي تصاعدت مؤخرا في صنعاء وأطلقها أطراف مختلفة سواء القيادات الرسمية أو شخصيات سياسية غير رسمية تعكس فشل الحكومة الحالية في فرض السيادة الداخلية. ففي الوقت الذي حذر فيه الرئيس عبد ربه منصور جماعة الحوثي من مغبة لعب دورها كراعية للشعب، حذر زعيم الحوثيين عبد الملك عبر رسائل تهديد في خطاباته المتلاحقة للنظام اليمني من الخطوات المقبلة في المرحلة التصعيدية الثالثة والتي تعمد أن لا يكشف عنها كجزء من استراتيجية هجومية يستخدمها مع السلطة ومتوعدا بتطبيق هذه الخطوات إذا ما فشلت الحكومة في تحقيق مطالب الجماعة، وخاصة إلغاء قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية، الإطاحة بالحكومة ، مراجعة تقسيم الأقاليم، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني. إلا أن استغلال الشعب من قبل الجماعات السياسية المتنافرة، واستخدامه كأداة سياسية للدفاع والهجوم في نفس الوقت، يعكس مؤشرات سلبية تساهم في رسم صورة قاتمة للوضع في اليمن.
على الرغم من ذلك، ما يحدث في اليمن لا يصنف كحدث سياسي غير مسبوق، لكنه صورة مكررة ومستنسخة من واقع دول الربيع العربي. فالانقسامات في الشوارع بين الموالين للحكومة والمعادين لها انطلقت منذ اندلاع ثورات الربيع العربي ولا تزال مستمرة في معظم هذه البلدان. والفرق الوحيد هو في درجة شدتها.
فما هي حقيقة الحركة؟ وهل حقا أضحت عموداً سياسياً في المعبد السياسي اليمني المتهالك؟
الزعيم الحالي لحركة الحوثيينقد حدد أيديولوجية الجماعة في الوثيقة الفكرية والثقافية للحوثيين التي صدرت في 2012 باتفاق بين الحوثيين وبعض علماء المذهب الزيدي والتي ذُيلت بتوقيعه وقد حاول الحوثيون من خلالها التوفيق بين توجههم الديني الذي يجنح نحو الاثنى عشرية وبين المذهب الزيدي المتعارف عليه في عموم اليمن للتقريب ما بين مواقفهم الدينية ومواقف علماء الزيدية مما يوفر لهم دعما سياسياً من قبل قبائل الزيدية كما يمنحهم غطاء من الشرعية الدينية لمتطلباتهم السياسية.
التعمق قليلاً في تاريخ الحركة وأهدافها السياسية والدينية يقود إلى شخصية حسين بدر الدين بن أمير الدين بن الحسين الحوثي الذي يعده المراقبون للشأن اليمني المؤسس الحقيقي للحركة والراعي لتوجهاتها السياسية خلال حياته وحتى بعد مماته عبر تناقل فكره الذي خلفه في محاضرات حملت عنوان “الثقافة القرآنية” والتي أكدت إعلان العداء لأمريكا وإسرائيل.
فهو كما صرح في محاضراته لا يعادي اليمنيين في الجيش أو الأمن أو الحكومة فهم إخوان للحوثيين ولكن هم أسوأ من أمريكا وإسرائيل إذا أرادوا أن يقاتلوا الحوثيين بديلاً عنهم وعندها تتحول القوات الحكومية إلى قوات أمريكية وإسرائيلية فيصبح قتلها “حلالاً”!
وتحت شعار: الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، والنصر للإسلام يلتقي كل من ملالي إيران وقادة حزب الله في لبنان والعراق وأنصار الله في اليمن.
وقد تكون هذه العقيدة الدينية والفكرية للحوثيين هي من قادت إلى اتهامهم بتلقي الدعم المالي والعسكري من إيران سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق تهريب الأسلحة عبر موانئ ميدي في حجة و اللحية في الحديدة وعبر خليج عدن.
إن علاقة إيران بالحوثيين سواء كانت على الصعيد الديني أو على الصعيدين السياسي والعسكري وسواء كانت محدودة أو متعمقة قد تفرض على بعض الدول في المنطقة وخصوصاً المملكة العربية السعودية تبني إجراءات دفاعية ووقائية في ذات الوقت لمواجهة التهديد الإيراني المحتمل لمصالح المنطقة. وإن كانت إجراءات السعودية الدفاعية قد انطلقت فعلياً على أرض الواقع بعد مواجهات عسكرية مع الحوثيين في 2009 وتحولت هذه الإجراءات لتغدو إجراءات وقائية بعد ثورة 2011 في اليمن والتي تبلورت في تبني السعودية لقنوات دبلوماسية للتعامل مع الحوثيين وقد سرت شائعات في نهاية عام 2013 بمقابلة تمت بين صالح الهبرة رئيس المجلس السياسي لأنصار الله والأمير بندر بن سلطان إضافة إلى تصريحات للناطق الرسمي لجماعة الحوثيين بلقاء قيادات حوثية مع السفير السعودي في اليمن إلا أن إعلان السعودية بأن الحوثيين حركة إرهابية في يونيو 2014 قد يدحض هذه الإشاعات أو قد يشير إلى عدم توفق الطرفين في محادثاتهم السرية.
ويرى البعض أن الحوثيين قد يكونوا قد استبقوا تيار الربيع العربي في مواجهاتهم السياسية والعسكرية مع السلطة والتي استمرت من 2004 إلى 2010 قبل انطلاق ثورة الربيع العربي في اليمن في 2011. فاليمن كانت مهيأة اجتماعيا وسياسيا لانطلاق ثورات ضد الحاكم سواء في جنوبها أو شمالها ولكن التمرد الحوثي في صعدة كان مبيتاً حتى قبل قيام الوحدة في 1990 لمحاربة النظام وربما إسقاطه وقد تعود النوايا المبيتة للفترة التي أعقبت خروج الإمامة الزيدية من صنعاء.
المواجهة العسكرية الأولى بين السلطة اليمنية والحوثيين في 2004 والتي قادت إلى مقتل زعيم الحركة حسين الحوثي أكدت أن لا رجعة عن الطريق الذي اختاره الحوثيون في مقاومة السلطة حتى استرجاع حقوقهم الدينية والسياسية التي اتسعت دائرتها منذ تلك الفترة حتى وقتنا الحالي لتصل إلى حق المشاركة في الحكم أو حتى الاستيلاء على السلطة بكاملها. مما قد يعنى أن الحوثية لم تعد حركة سياسية خاصة بجماعة معينة لها خصوصيتها الجغرافية والدينية والاجتماعية والسياسية وانما هي قد تحولت بعد ثورة 2011 لتوجه سياسي معارض للسلطة يضم تحت مظلته حوثيين وغير حوثيين داخل صنعاء وخارجها. قاد هذا لانشقاقات قبلية وسياسية داخل المجتمع اليمني بين مؤيد للحركة ورافض لها وقد تكون الحكومة اليمنية هي من ساهمت في زرع تلك الانشقاقات في مواجهاتها مع الحركة وتأسيسها للجيش الشعبي في يوليو 2008 الذي تكون من 27000 مقاتل للتخلص من الحوثيين. وقد ازدادت تلك الانشقاقات عمقاً بعد أزمة دماج وكتاف معقل السلفيين وتحولت إلى مواجهة مع القبائل السلفية.
نجاح الحوثيين في السيطرة على عمران واغتيال قائد اللواء 310 القشيبي وإعلان الرئيس هادي إجراء تحكيم ووساطة للوصول لاتفاق مع الحوثيين في عمران يقود لانسحابهم وسيطرة الجيش اليمني على المحافظة يشير إلى أن ما تم إعلانه شيء وما يحدث على الواقع شيء آخر حيث أن الحوثيين لا يزالون مسيطرين حتى على ألوية الجيش التي سمحوا بدخولها لعمران مما يطرح العديد من علامات الإستفهام حول وجود عناصر موالية للحوثيين داخل الجيش نفسه.
وقد استطاعت الحركة الحوثية أن تنجح في ذلك من خلال أحد التكتيكات التي تبناها أنصار الله في شراء ولاءات بعض القيادات العسكرية والقبلية إضافة إلى شراء الأراضي بأموال مضاعفة لسعرها الحقيقي في محافظات يمنية شهدت حروبهم مع السلطة مثل حجة والجوف وعمران مما مكنهم من السيطرة على العديد من المواقع الاستراتيجية كما حدث في صعدة (سواء كتاف أو دماج) أو عمران إضافة إلى ضمان ولاء القبائل المناهضة لبيت الأحمر وتأجيج العناصر المعارضة للنظام الحاكم ودفعها لتبني مواقف محايدة إزاء ما يحدث بين السلطة والحوثيين. كما أن هناك دلائل كثيرة على أن الحركة لا تتريب أو تمانع من استخدام العنصر المذهبي في محاولة لجذب ولاء وتأييد المنتمين للمذهب الزيدي والذين يشكلون ما يزيد عن 48% من اليمنيين في مناطق صنعاء، عمران، الجوف، صعدة، وذمار. وأهداف الحركة الحوثية سياسية بالتأكيد لكنها لا تستهدف بالدرجة الأولى الاستيلاء على صنعاء وإنما تشير التحركات العسكرية للحركة أنها تحاول أن تتمركز في مواقع ومحافظات معينة قريبة من مراكزها القيادية والامتداد من خلالها لأكبر رقعة جغرافية لتأمين منافذها البرية والبحرية لتصبح بعد ذلك صنعاء لقمة سائغة لها لن تستهلكها عسكريا بدرجة كبيرة. لذا فهي قد تتحرك من عمران تجاه الجوف شرقاً وحجة غرباً وقد سبق للجماعة أن اقتحمت حجة في مواجهات مع القبائل والسلطة في 2012 وفبراير 2014 ولكنها وُوجِهت بصد قبلي قوي مما جعلها تتراجع وتتجه نحو عمران والجوف. إلا أن ذلك لا ينفي أن الحوثيين قد مكنوا أنفسهم من مينائي ميدي في حجة واللحية في الحديدة سواء عبر شراء الأراضي أو عبر ضمان ولاء بعض القبائل. وهذا يضمن لهم تواجداً سياسياً أكبر في صنعاء مما منحهم مجالاً تفاوضياً أقوى مع السلطة خصوصا وأن الموالين لهم داخل صنعاء في تصاعد. كما أن امتدادهم في المحافظات الشمالية قد يمكنهم من فتح أبواب مع الجنوب عبر حضرموت خصوصاً في ظل التوافق السياسي الضمني مع عناصر الحراك السياسي المطالبين بانفصال الجنوب. وهناك توجهات سياسية حوثية غير معلنة ومؤجلة لاستحداث قنوات مع الشيعة الاسماعيلية في جيزان ونجران على الرغم من الخلافات المذهبية التاريخية بين الطرفين وذلك لـتأمين قواعدهم الخلفية عبر المملكة العربية السعودية التي يرونها عدوهم اللدود.
في حال نجح الحوثيون في الاستيلاء على الحكم في صنعاء ماذا نتوقع بعد ذلك أن يحدث في اليمن؟
هناك غموض يحيط بنواياهم السياسية في حال استطاعوا المشاركة في الحكم أو الاستيلاء عليه في صنعاء. والتنبؤ بسيناريو الأحداث التي قد تعقب ذلك ليس بالسهولة التي نتصورها خصوصاً وأن الأجندة السياسية للحوثيين ليست واضحة باعتراف العديد من المراقبين الدوليين.وإن كانت الخطابات الأخيرة لعبد الملك الحوثي تؤكد على أن الجماعة تدعم استمرار النظام الجمهوري وتفتح الباب على مصراعيه لمشاركة جميع أفراد الشعب اليمني.
كما أن المراقبة القريبة والمتعمقة للعلاقات الداخلية في نطاق الحركة الحوثية نفسها قد تثير الشكوك حول أهلية الحركة لتصبح معارضة سياسية شعبية واسعة داخل اليمن حيث أن قيادة الحركة تم حصرها في أبناء بدر الدين الحوثي. واعتبر البعض أن زعامة الحوثيين غدت حكراً على نسل بدر الدين الحوثي مما قد يضعف على المدى الطويل من مؤيديها على مستوى القبائل الأخرى. كما أن تعيين زعماء القبائل الموالية للحوثيين فقط قادة ميدانيين قد يثير مع الوقت حنق القبائل ويدفعها للانشقاق عنهم. إضافة إلى ذلك فإن علاقة الحركة مع أطراف سياسية أخرى داخل اليمن تشكل دعما وسندا سياسياً لها في الوقت الحالي سواء من الأحزاب السياسية أو القبائل المعارضة للنظام الحاكم قد تتعرض لأضرار مستقبلاً وتفقد الحوثيين عنصرا سياسياً هاما وذلك في حال قرر الحوثيون تحديد مطالبهم السياسية في نطاقات ضيقة.
التطورات الأخيرة بين الحوثيين والحكومة في اليمن تمثل نوع من الاستسلام التدريجي من جانب السلطة التي أرسلت وفداً رفيع المستوى لمركز الحوثي في صعدة للتفاوض معهم وليس العكس. ومع ذلك، فإن فشل المفاوضات بين الجانبين يؤكد أن الحوثيين قد حققوا نقاطاً في الجولة الأولى. والتحركات العكسية التي يقودها النظام وحزب الإصلاح في تعبئة الشارع اليمني لمواجهة الحوثيين قد تبدو ضعيفة التنظيم مقارنة بالحشود التي تدعم الحوثيين مما يمنح هؤلاء الثقة في التغلب على السلطة في جولات تفاوضية قادمة كما يكسب الحركة مصداقية أكبر في الشارع الصنعاني. ولكن المنتصر هو من يسجل المزيد من النقاط في الجولة النهائية.
مترجماً عن غلف نيوز – Gulf News