مقابل كل مئة كلمة تُقال او دراسة تُكتب عن اليسار العربي، بالكاد يمكن العثور على كلمة او دراسة عن اليمين على رغم الفارق الشاسع في مستويات التأثير والسلطة والتأييد التي يتمتع بها كل من جانبي الانقسام السياسي بتعريفه التقليدي.
آية ذلك أن امالا عريضة عُلقت، بحق ومن دونه، على اليسار العربي كحامل للتغيير السياسي ومبشر بالتقدم الاجتماعي في البلدان العربية منذ خمسنيات القرن الماضي على اقرب تقدير، مع صعود حركات التحرر الوطني في العالم الثالث وتبني قسم كبير منها الايديولوجيا الماركسية – اللينينية أو لأخذها مسائل العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والتخلف بعين الاعتبار مع الاهتمام بكسر نير الاستعمار الاجنبي في الوقت ذاته.
يمكن الحديث اليوم عن نهاية اليسار بصيغته السابقة بعد انقسامه حيال الثورات العربية التي آثرت اكثر قوى اليسار تأييد أنظمة الاستبداد والثورات المضادة على الانحياز الى مطالب الشعوب بالحرية والكرامة بذرائع ما انزل الله بها من سلطان تقوم على الاستبداد يواجه الامبريالية الاميركية وما يدخل في هذا الباب من حجج تتعمد التورية على اسباب اعمق وأكثر جدية سال حبر كثير في شرحها وتفنيدها.
المهم أن التطويق والتصفية اللذين تعرضت لهما الفئات التي حاولت اضفاء معنى جذري – تقدمي على الثورات (خصوصا في مصر وسورية) أعاد الصراع الى ساحات اليمين العربي المتنوعة، الدينية والعسكرية. او بكلمات ثانية، أنيطت، مرة جديدة، مهمات التغيير السياسي بالطبقة البرجوازية الصغيرة وفئاتها الأكثر نشاطا في الجماعات الاسلامية وفي مؤسسات «الدولة – النظام» فيما تؤدي البرجوازيات الاكبر، في داخل بلدان الثورات العربية وفي خارجها، دور الممول والمساند لكلي الجانبين بحسب تبدل المصالح والاحوال.
عليه، ربما لا يبدو مفاجئا أن يندحر التحالف غير المعلن بين فئات الانتلجنسيا والشباب ومهمشي المدن كانت على تحمل قيم التغيير والديموقراطية والمساواة والمواطنة وحقوق الانسان وغيرها مما بات يشكل ترسانة الخطاب اليساري المعاصر، في السباق الى الامساك براية الثورة فيما تفوز فئات اكثر تمثيلاً للبنى الاجتماعية التقليدية في المدن والارياف والاقرب الى الانخراط في الولاءات العائلية والقبلية واعتماد التصور الديني للصراع على السلطة ما صبّ في جهود «النظام القديم» بابعاد شبح الثورة عنه. ففي مصر عادت شخصيات عهد حسني مبارك الى تصدر الواجهة بعد الاخطاء المميتة التي ارتكبتها حكومة «الاخوان المسلمين»، وفي سورية اسدت الفصائل «الجهادية» اكبر الخدمات لنظام بشار الاسد من خلال اللجوء الى ممارسة وخطاب طائفيين مذهبيين لا يختلفان في العمق عمّا يقوم به النظام بل تمثل الخلاصة المثالية لتصوره عن خصومه والتي روّج لها بنجاح لتعويم نفسه امام العالم.
أعاد اليمين العربي، بألوانه المختلفة ومعسكراته المتنوعة، الامساك بناصية الوضع في المنطقة من خلال اقتتال الهويات والتصورات الغيبية المتنافسة والعقائد الخلاصية، وتأجلت الى زمن بعيد مقبل محاولات «انسنة» الثورات العربية ودفعها للانحياز الى جانب الفئات الافقر والأكثر تعرضا للظلم والتهميش بغض النظر عن الدين والعرق والجنس.
بيد أن المأساة داخل المأساة، اذا جاز القول، تتلخص في ان الصراعات بين اجنحة اليمين العربي الدينية والعسكرية والعشائرية، تشير كلها الى تفتت عميق في التركيبة الاجتماعية في هذه المنطقة، حيث لم تجر صيانتها وترميمها منذ انسحاب قوات السلطنة العثمانية.
المصدر: الحياة