في أحد أيام عام 2007 حين كنت أعمل مدرباً على مهارات الحاسب في شركة أرامكو التقيت بزميل جديد لم أحسب أنه سيعلمني أعظم دروس الكفاح والمثابرة. لازلت أتذكر المكان الذي جلس فيه (محمد القحطاني) في الصف الثاني على يسار قاعة الدورة التي سأقدمها. وكالمعتاد، بدأتُ الدورة بالطلب من المتدربين أن يعرّفوا بأنفسهم فيذكروا أسماءهم والدوائر التي يعملون فيها. كانت الإجابات عادية إلى أن وصل الدور إلى محمد القحطاني الذي فاجأنا جميعاً بإجابته. دُهشنا أنه يتأتئ كثيراً في كلامه بطريقة أشعرتنا ببعض الغرابة. استمرت التأتأة في كل مشاركات محمد وإجاباته على الأسئلة خلال الدورة.
ومرت الأيام والشهور لتجمعني الأقدار بمحمد من جديد عام 2009 في (نادي المجمع الشمالي توستماسترز) للخطابة والذي أُسّس حديثاً حينها. فرحت باللقاء به، ولكنني لوهلة خشيت أن تعيقه التأتأة وتسبب له إحراجات أمام الجمهور. إلا أن محمد تجاهل عائق التأتأة بكل شجاعة وراح يلقي الخطبة الجيدة تلو الأخرى. تحسّن أداؤه مع الوقت وصار من أكفأ الخطباء في النادي. ثم انتشر صيته في الشركة وصار يلقي الخُطب الرائعة في كل مكان.
وفي مواسم مسابقات الخطابة كان من المشاركين دائماً، إلا أن القريب من محمد القحطاني يتذكر كيف كان الإخفاق حليفه في الكثير من الحالات. لأعوام طويلة حاول أن يتجاوز بعض جهابذة الخطابة في الشركة دون جدوى. ولكن – وبكل أمانة – لا أتذكر أنه تذمر أو غضب بعد أي هزيمةٍ مُني بها. بل أستطيع أن أقول أن محمد القحطاني هو أكثر متسابق أعرفه تحلى بالروح الرياضية وتقبل الهزيمة. ليس ذلك فقط، فمن بين كل الذين خسروا في تلك المنافسات، كان محمد أكثر من نهض من جديد بمعنويات عالية وعاد يحاول مرات ومرات بنشاط مضاعف دون هوادة.
وتمر السنين، ويقلّ عزم الكثيرين ممن أحبوا الخطابة فتركوها أو قللوا منها، إلا أن محمد لم يزده الوقت إلا عشقاً لهذه الهواية. إلى أن صرنا نراه يحضر ويخطب في الكثير من أندية الشركة، حيث يحق للفرد أن يكون عضواً رسمياً في أكثر من نادٍ. لماذا؟ لأنه آلى على نفسه إلا أن يتطور بكل ما أوتي من قوة، مهما تكرر الفشل.
وفي 2015 يعود محمد القحطاني ليتسابق في بطولة الخطابة. في البداية تجاوز كل التصفيات التأهيلية بين أندية أرامكو (وهي من أشد الأندية تنافسيةً لكثرة المتسابقين الممتازين) وتأهل محمد إلى بطولة المملكة العربية السعودية. وفي تلك البطولة تقضي الأحكام أن الفائز بالمركز الأول فقط هو الذي يترشح إلى بطولة العالم ممثلاً للمملكة. فماذا كان مركز محمد؟!
الثاني! حصل محمد على المركز الثاني! سقطة مدوية جديدة يعاني منها هذا الخطيب الشجاع. ولكن الأقدار أبت إلا أن تعطي محمد فرصة ليحقق حلمه، حيث قرر صاحب المركز الأول أن يعتذر عن المسابقة، وأتاح الفرصة لمحمد القحطاني لتمثيل المملكة في نهائيات العالم المقامة في لاس فيغاس في أمريكا.
وفي (فيغاس) حيث اجتمع 96 من أعتى خطباء العالم ليتسابقوا على لقب (بطل العالم في الخطابة) كلهم جاء من بلده محملاً بتلال من الآمال والأحلام. كان محمد بروحه المعنوية العالية وفكاهته الاستثنائية يلاطف أصدقائه الذين رافقوه ليدعموه هناك، ويراسل أصدقاءه في الوطن ويطلب منهم الدعاء. ولعل أجمل صورة رأيتها تلك التي التقطها بجانب علم المملكة وكتب معلّقاً عليها “فخر لي أن أمثل بلدي. دعواتكم لي”.
تمر أيام البطولة، وتبقى الأحلام تغمرها التفاصيل وفوضى المهرجان. آلاف الحضور، زخم المسابقة، التصفيات، الآمال، الدعوات.. ولا تنسى أنها (فيغاس)! ويبقى محمد محافظاً على ابتسامته التي يخبئ خلفها جبالاً من الآمال.
انتهت المسابقة، وفي لحظة كتابة هذه الكلمات يستعد محمد القحطاني للعودة إلى الوطن. وفي هدوء غرفة الفندق، يجد نفسه وحيداً مع ذكريات الطفولة، حين عانى من مشاكل في النطق ولم يلفظ أولى كلماته إلا في سن السادسة. وحين كان يتأتئ في المدرسة فيسخر منه جميع الطلاب
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك www.facebook.com/writer.mohammed.husein
الفيديو
httpv://www.youtube.com/watch?v=qasE4ecA57Y