محمد إسماعيل – دبي:
«لقد علمني خالد أن في الانكسار جمالاً، وفي التشظي معنى، كان حضوره يهمس لي بأن لا شيء في هذه الحياة يضيع سدى – لا ألم، ولا حيرة، ولا شوق، فكل لحظة تجلٍّ، وكل تفصيلة خطوة على الطريق».. بكل هذا الشجن تستهل الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، الحكاية في كتابها الجديد: «أخبروهم أنها هنا.. بحثاً عن ملكة مليحة»، إذ تنطلق بلمسة وفاء للراحل الغالي، وتتذكر من لا يُنسى: أخاها الشيخ خالد «من كان في حياته ورحيله تذكيراً لي بأن الوجود كله ما هو إلا رحلة روحية من التذكر والتجلي».
بسمو رفيع وتصالح مع الذات؛ تضع الشيخة بدور القاسمي نفسها في كتابها، فهذه كلمات من القلب ولا مجال فيها سوى للصدق.. صفحات خطت للوجدان لا للمطالعة السريعة، كتبتها صاحبتها مثل مناجاة ونشيد وقصيدة طويلة تسافر عبر الماضي والحاضر، وتفتش بين فضاءات عابرة فوق الزمان والمكان، وتسلك دروباً كثيرة، بإخلاص ونقاء وصفاء، من أجل العودة إلى النور الكامن الذي يتطلب فقط إيقاظه، وهو ما تسعى إليه مبدعة هذا الكتاب.
رحلة الشيخة بدور الجميلة، عبر «أخبروهم أنها هنا»، هي هدية لكل قارئ، توفر عليه العناء، ليسلك درب الحياة بمحبة وأمل وتصالح مع الروح، إذ تستعرض بقلب منفتح على الصدق والإخلاص تجاربها ورؤاها، ومَن تستمد منهم العون لإكمال المسيرة، لتغزل الحكاية ذات الـ11 فصلاً، بخيوط نسّاجة صبورة، تستدعي ألواناً من جهات متفرقة، لكي تتم في النهاية لوحة تعبر عنها هي، تحمل توقيعها، وبصمتها الخاصة جداً.. بصمة بدور القاسمي التي تركز على الحلم، وتستقبله كبوابة مفتوحة على عوالم نورانية، وترى في الأساطير أكبر من بقايا زمن مندثر، وعقول بدائية.
«ذكرى خالد»
في «أخبروهم أنها هنا.. بحثاً عن ملكة مليحة»، أنت كقارئ مدعو إلى سفر متعدّد الوجهات والأزمنة، مرشدتك فيه هي الشيخة بدور القاسمي، واستعد للبداية مع «ذكرى خالد»، والحزن النبيل هنا على الأخ الراحل، هو رضا تام وتسليم منذ الكلمة الأولى، ثم تأهب لصعود الجبال، من كليمنجارو حتى أهرامات البوسنة، وقمم كلباء، وتأهب كذلك للإقامة طويلاً في فضاءات مليحة لتمشي بتؤدة على رمالها الناعمة وتشعر بنسيمها البارد تحت أضواء النجوم والليالي المقمرة، لكي ترى بعين الخيال المحلّق جمالها المستور، وقد يراودك إحساس في لحظة ما بأنك تودّ لو تدير مفتاح سيارتك، وتتوجّه مباشرة إلى المكان الآسر.
كما أنك كقارئ – بصحبة الشيخة بدور – على موعد للتعرف إلى ملكات منسيات، من: ماوية إلى زنوبيا وليس انتهاء ببلقيس، وكثيرات غيرهن من ملكات مليحة، علاوة على أجداد بجلال الأولياء، ستعرف عنهم ما لم تكن تعرفه، وكذلك جدات طيبات يزرن المؤلفة صحوة ومناماً، ويحضرن بشكل جلي عبر الصفحات التي تتنوّع فيها الشهادات، وتتداخل المشاهد ما بين الواقع والخيال، والحياة الشخصية والعامة.
ومثل رايات منيرة على الطريق، تحضر مقولات أصحاب النفوس الزكية والحكماء والفلاسفة والشعراء الحالمين من عصور مختلفة، لتكون مسبحة تتلألأ حباتها، إذ تستعين بها المؤلفة، وتوظّفها في استراحات رحلتها، من «مولانا» جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي، وأبي حامد الغزالي، مروراً بأفلاطون، وفريد الدين العطار، والجنيد، ورابعة العدوية، ووصولاً إلى جبران خليل جبران ولوركا وهرمان هسه.
إضافة إلى وقفات متأنية مع السلالة والدم الجاري في عروق المؤلفة، من ورثت منهم هذا الشغف بالأرض والتاريخ، وفي المقدمة الوالد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة: «لم يكن والدي رجل دولة وحاكماً فحسب، بل مفكراً وعالماً بالتراث والأنساب، ومؤرخاً لعصره – ناسجاً للحقيقة والزمن، كتبه تسكنها أصداء الحضارات وهمسات الأرواح المنسية، ومنه ورثت توقير الحكايات، وفضولاً لا يهدأ تجاه الماضي. كمريد في محراب قديم، أجدني دوماً أبحث، أقرأ، أنصت بقلبي إلى أنين الأزمنة المطوية».
همس الأجداد
لا تبحث الشيخة بدور القاسمي في كتابها – الصادر حديثاً عن دار «روايات» في 367 صفحة – عن ملكة مليحة فحسب، بل عن الجذور الضاربة في الأصالة، لتصغي إلى همس الأجداد والجدات، فمع كل خطوة في هذا السرد سيكتشف القارئ ما لا يعرفه عن الشيخة بدور: الباحثة في علم الأنثروبولوجيا والآثار، من تقدّر نبض أرض الإمارات الطيبة، وتعشق كل حبة رمل فيها، منذ أن زارت مليحة بشكل خاص منذ أول مرة زارتها وهي فتاة في المرحلة الثانوية تتأهب لدراسة الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة كامبريدج عام 1995، وكان عليها أن تعد تقريراً عن تلك البقعة الساحرة التي تواصلت قصتها معها في ما بعد، لتحولها إلى سياج شاهد على التاريخ، ليس تاريخ المكان، بل البشرية، مؤكدة: «كلما تعمقت في مليحة، أدركت أنها ليست مجرد موقع يزار، بل مكان يناديني، مكان يصون ذاكرة الذين رحلوا، ويحتضن أصواتهم في صمت الريح وتحت ثقل الجبال العتيق، ولاتزال أصواتهم تهمس».
وبعيون خبيرة هائمة بالمكان تتحدث الشيخة بدور في كتابها عن كنوز مليحة الخفية، وأشواك جبال كلباء ونباتاتها التي لا نعرفها، أما هي فتعرف أصل اسم كلباء وحجرها وطائرها الرفراف الأبيض المطوق «الذي لا يُعرف له وجود على الأرض إلا هنا وفي موقعين آخرين في شمال عمان»، وتريد أن يعرف القارئ كذلك أشجار السمر وعطايا الأرض الطيبة، وشجرة الصحراء المباركة، ففي أعالي قمم جبال كلباء وُلد هذا الكتاب وعنوانه والرسالة التي سمعتها بعد أن رأت ما يشبه مقبرة سومرية، وسمعت أصداء الجبل والزمن البعيد: «فجأة من دون إنذار، ارتفع صوت – ليس في أذني، بل في أعماق ذهني. همسة واضحة، آمرة، آتية مما وراء: أخبروهم أنها هنا.. أخبروهم أنها هنا».
استئصال الغدة الدرقية
بلا هالات، وباسم مجرد على الغلاف، تبوح بدور القاسمي بالكثير في كتابها، وتروي لحظات مفصلية، ليس بأي غرض سوى إلهام القارئ، ودفعه هو الآخر للسير خفيفاً في دربه، سعيداً بمنح الحياة وهداياها، وراضياً باختباراتها، وساعات العسر بيقين أن بعدها يسراً، وبدرس عملي تروي المؤلفة: «على مدى ثلاثة عشر عاماً، عانيت من مرض مناعي ذاتي يعرف بداء هاشيموتو، يصيب الغدة الدرقية.. ومع تعمقي في رحلة الشفاء بدأت أرى هذا المرض بوجه آخر، ليس كخلل جيني بل كجرح روحي.. وكتابة هذا الكتاب ستكون بدورها ضرباً من ضروب التشافي، وأن البوح بقصتي وقصصهن سيكون بحد ذاته سبيلاً إلى تحريري.. لكن الشفاء نادراً ما يأتي كما نتوقع. ففي أثناء كتابة هذا الكتاب أخذت غدتي الدرقية تتضخم بسرعة، إلى حد أنها أخذت تضغط على قصبتي الهوائية، ما جعل التنفس والنوم أمرين عسيرين.. وما كنت أرجو أن يكون تحرراً لطيفاً تحول إلى حالة طبية طارئة، كان عليّ أن أخضع لعملية استئصال كامل للغدة الدرقية».
سالكة درب البوح كاملاً، تسير الشيخة بدور القاسمي من البداية حتى النهاية، راوية لحظات مؤثرة، عن ساعات عصيبة، وجميلة في الآن ذاته.. ومنها مشاعرها وأحلامها وما كان يدور في عقلها حينما كانت منظمة اليونسكو تناقش ملف انضمام موقع الفاية لقائمة التراث العالمي، وبعد النجاح كانت دموع الفرح: «لم أستطع أن أوقف الدموع، لم تكن دموع فخر أو ارتياح فحسب، بل أنقى إحساس عرفته يوماً: الامتنان والانعتاق والمحبة. لم أبكِ لنفسي، بل لأني شعرت بهم – كلهم يشكرونني.. يحيطون بي»، إذ كانت الشيخة بدور هي «العرابة» وسفيرة هذا الملف الذي تطلب جهوداً كبيرة من أجل إنجازه، ورد الاعتبار إلى رمال مليحة والأسلاف الذين يستحقون الخلود.
وبين فصول متعددة تتنقل الشيخة بدور في «أخبروهم أنها هنا.. بحثاً عن ملكة مليحة»، كاشفة عن العديد من الأحلام التي تحققت، والرؤى التي مازالت تسعى إليها، وستظل معها: «وهكذا في النهاية لا يهم إن كنت قد وجدت ضريح الملكة، أو كشفت عن آثار مطمورة في باطن الأرض، ما يهم حقاً هو أن الرحلة قد كشفت عن القلب ذاته – قلب اتسع ليحمل كل شيء، ولم يبقَ فيه سوى المحبة.. هذا الكتاب شهادة حب. خيط ممتد من ذاكرة الروح، إلى أولئك التائهين في صحارى الشك، إلى الذين خبأوا أسئلتهم في أعماقهم».
وكما بدأت الشيخة بدور القاسمي الكتاب بلمسة وفاء تختتمه بلمسة امتنان لمن يستحق؛ فآخر الكلمات رسالة حب موجّهة، سيعرفها من يكمل هذه المحطات الجميلة بصبحة مؤلفة تشبه شهرزاد التي لا تُملّ حكاياتها، إذ يظل مستمعها تحدوه الأماني في أن يمتد الليل، وألا يصحو ديك الفجر، كي لا تنتهي صفحات «أخبروهم أنها هنا.. بحثاً عن ملكة مليحة».. الكتاب الذي ينطق بلغة الروح المرهفة والمشاعر وليس بمجرد الحروف والكلمات.
شهادة «قارئ حكيم»
بعيون والد وقارئ خبير، وكلمات حكيمة، يلخص صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، تجربة سموه مع مطالعة كتاب «أخبروهم أنها هنا.. بحثاً عن ملكة مليحة» للشيخة بدور بنت سلطان القاسمي: «شكراً جزيلاً على هذه الخلوة التي أخذتني بعيداً عن المشاغل لأعبر إلى عالم آخر، إلى عمق التاريخ على بساط من خيال يقترب من الحقيقة ثم يتركها، وكنت كأنني على أرجوحة، ترفعني إلى السماء، ثم تهبط بي إلى الأرض، ثم ترفعني ثانية إلى السماء، ثم تعود بي إلى الأرض، بالتوفيق لما تصبين إليه: والدك».
• 367 صفحة، يقع فيها الكتاب الصادر عن دار «روايات».
• 11 فصلاً، يتضمنها كتاب «أخبروهم أنها هنا».
• حكاية هذه الأرض لا تنفصل عن حكايتي، فالدم الجاري في عروقي يتكلم بلغة الكثبان والنجوم.
• إذا تعرفت على أرضك أدركت ذاتك، ومضيت في تضاريسها بشموخ.. أي أسرار تخفيها هذه الأرض؟
• أدعوكم للسير معي، لا بأبصاركم وحدها، بل بكل جوارحكم.. دعوا الحكايات تبعث الذاكرة من سباتها.
المصدر: الإمارات اليوم




