رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط
«من منا سيعيش إلى الأبد؟»، قالها في اللقاء الأخير الذي جمعنا معًا ومضى. لم يكن يعلم أنها ستكون العبارة الأخيرة التي أسمعها، ولم أكن أعلم أنني حبست في صدري كلامًا لم يسمعه. كنت كعادتي أهوّن الأمور كثيرًا عندما يأتي الحديث عن أحواله الصحية، وكان كعادته واقعيًا وكأنه يجهز من حوله ليوم وفاته. كلما شعر بدنو أجله، قوي إيمانه بالقدر أكثر وأكثر. عندما أخبره الأطباء قبل سنتين بأنه لن يسير على قدميه من جديد، قال: مشينا طويلاً في هذه الحياة، فما المانع من سنوات قليلة بلا أقدام؟ لم ينكسر رغم كل ما فعله به المرض. فلما رحل، غاب عن مشهد الحياة بصمت مهيب يستحقه، وطويت صفحته كما أرادها بيضاء تسر الناظرين. اجْنِ ما زرعت يداك يا علي.
أصدقكم القول، لست بالشخص المناسب لكتابة الرثاء، لست بارعًا ولست قادرًا، أما والمرثي هنا هو زميلنا وصديقنا وأستاذنا علي إبراهيم نائب رئيس التحرير، الذي وافته المنية بعد صراع طويل مع المرض، فلا يهم إن كنت أجيد ذلك أم لا، المهم أنه بقدر ما كانت، وستظل، هذه المؤسسة العريقة «الشرق الأوسط» لا تعتمد على أي من العاملين بها من رؤساء تحرير كبار مروا عليها وغادروا.. قيادات صحافية عملاقة.. صحافيين بارعين.. إداريين متميزين، إلا أن المعادلة اختلفت جدًا مع هذا الرجل؛ ظل غيابه مؤثرًا في فترة مرضه ولم يغطِّه أحد. زملائي وأنا نعرف ذلك جيدًا في الساعات التي يحضر فيها، لمسات سريعة تكفي ليذهل الجميع.. كانت أمامنا، فلماذا لم نرها ورآها هو؟ هكذا كنا نتساءل، تتكرر مثل هذه اللمسات غالبًا، ويستمر ذهول الزملاء دائمًا. غادر علي مبنى الصحيفة ذات أربعاء كئيب، ولم يظن أحد أنه لن يعود إلى محبوبته ومعشوقته وصحيفته. رحل بعد أن أتعب روحه وجسده فقط ليستعد من أحبوه لقرب رحيله. آه يا علي، حتى في حضورك تحمل عنا همّ غيابك!
بعد أن أصابته أزمة قلبية عاصفة أقعدته طويلاً على فراش المرض، عاد جزء منه، والجزء الآخر ذهب به المرض اللعين، همست إليه: نحتاجك كثيرًا يا أستاذ، فرجاء لا تثقل على نفسك. رد بكلمته الشهيرة: حاضر. بدأ تدريجيًا في العودة لأجواء العمل مكلفًا نفسه فوق طاقتها. كررت طلبي، ويرد بكلمته ذاتها: حاضر. ثم يواصل هوايته. اشتكيت لزوجته منه مرارًا، وكان يبتسم ويردد: حاضر. حتى جاء ذلك اليوم الذي غضبت منه وقلت: خذها صريحة، لا أزعم خوفي على صحتك، بل رغبة في حضورك غدًا، فهلا توقفت عن العمل وذهبت لمنزلك الآن؟ رد بتململ نادر: في وجودي بينكم متعة وشفاء، فهل لك أن تتركني على راحتي؟! هذه المرة أنا من قال: حاضر. تركناك يا علي، لكن الموت لم يتركك.
قبل أكثر من عقد عملت مراسلاً متعاونًا مع «الشرق الأوسط» وعلي إبراهيم رئيسي، وأصبحت مسؤولاً للتحرير واستمر رئيسي، ثم مساعدًا لرئيس التحرير ولا يزال رئيسي، وبعدها عدت للصحيفة رئيسًا للتحرير وعلي صديقي، فهل تغير؟ لم يتغير لا رئيسًا ولا مرؤوسًا، أدبه الجم لا يتبدل، وابتسامته لم تختفِ، وكلماته الصادقة نادرًا ما تخطئ الطريق. لا تملك إلا أن تتعلم منه، وإن ذكرته بصدق نصائحه، تواضع وكأنه لم يقلها. تأتيه وفيك هموم الدنيا، وتغادر وكأنك بلا هموم. كان يردد دائمًا: الصوت الهادئ أقوى من الصراخ، والتواضع يحطم الغرور، والأدب يهزم الوقاحة. أتعبتنا بعدك يا علي.
رحم الله صديقي وزميلي وأستاذي علي إبراهيم. وعزاؤنا، زملائي وأنا، لزوجته الصابرة السيدة تفيدة، وبناته نهى وسلمى وشيرين. رحل وترك فينا شيئًا لن يرحل معه. غرس فينا بصمة لا يستطيع الموت نزعها أبدًا. نعدك بذلك يا علي.
المصدر: الشرق الأوسط