بعد مرور 128 عاماً على إقامة تمثال الحرية، لا يزال البعض يجهل أن الفرنسيين صنعوا التمثال وأهدوه إلى أميركا وأن الفنان الذي أبدعه استلهم وجه أمه وجسم حبيبته.
وكان تثال الحرية أغلق أمام الزوار في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي بعد اندلاع أزمة الموازنة في الولايات المتحدة الأميركية والإغلاق الجزئي لبعض الدوائر غير الأساسية التابعة للحكومة الفيدرالية.
إلا أن حاكم ولاية نيويورك الديمقراطي، أندرو كومو أعلن، عن التوصل إلى اتفاق مع الحكومة الفيدرالية لإعادة فتح منتزه تمثال الحرية أمام الزائرين، رغم الإغلاق الجزئي لبعض الوكالات الحكومية بسبب الأزمة المالية.
ونقلت وسائل إعلام أميركية، عن كومو، قوله في بيان، أمس الجمعة: «لن نسمح باستمرار إغلاق رمز الحرية الدولي جراء التوصل إلى طريق مسدود في واشنطن».
وكشف أن المنتزه سيعاد فتحه في نهاية الأسبوع الجاري.
ويذكر الإتفاق أن ولاية نيويورك ستتكفل بتسديد 61 ألف دولار يومياً إلى الحكومة الفيدرالية من أجل إعادة فتح التمثال أمام الزائرين.
وقال كومو، إن جزيرة الحرية التي يزورها نحو 10 آلاف زائر يومياً، أغلقت طوال 8 أشهر عقب إعصار ساندي الذي ضرب الولايات المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مشيراً إلى أن المنتزه يدر عائدات بقيمة 15 مليون دولار إلى الحكومة الفيدرالية، إضافة إلى 3,2 ملايين دولار إلى مدينة نيويورك.
وشدد على أن تمثال الحرية هو أحد أكثر المعالم شهرة، إذ يستقطب ملايين الزوار إلى الولاية في كل عام، مشيراً إلى أن «إغلاقه خلال الأيام الـ12 الماضية كان له أثر رهيب على الاقتصاد المحلي والسياحة».
تاريخ تمثال الحرية:
في عهد الإمبراطورية الفرنسية الثانية، دعا المؤرخ الفرنسي ادوار دولابولاي، الأستاذ في الكوليج دي فرانس والاختصاصي في تاريخ أميركا، إلى اكتتاب وطني يذهب ريعه إلى تقديم هدية ملموسة إلى مواطني الولايات المتحدة الأميركية في مناسبة العيد المئوي الأول لاستقلال بلادهم، الواقع في 4 تموز يوليو 1876. واحتاج دولابولاي إلى 15 عاماً كي يجمع المال اللازم لصنع تمثال نحاسي يبلغ طوله 46 متراً ووزنه 100 طن.
وكلف الفنان الألزاسي الكبير اوغوست بارتولدي 1834 – 1904 صنع تمثال الحرية الأميركي الذي يقف اليوم شامخاً على مدخل مدينة نيويورك. واعتمد الفنان نموذجين عزيزين عليه في حياته، هما أمه وحبيبته ليصنع على غرارهما تمثاله. اختار وجه أمه ليكون وجه التمثال، وجسم حبيبته ليكون جسمه. وكان بارتولدي يعرف أن تمثال الحرية الأميركي هو تحدٍ جديد له في صنع المنحوتات الضخمة. ويرتبط اسم بارتولدي بالفناء الذي صممه سنة 1856 لمدخل قناة السويس. وما فعله بارتولدي بالنسبة إلى تمثال الحرية، هو قيامه بصنع يد التمثال التي تحمل المشعل في السنة الأولى من تكليفه. وفور انتهائه من عمله الأولي هذا، نقلت اليد إلى فيلاديلفيا وعرضت هناك أمام الناس. ومن يومها راح الأميركيون يعيشون أجواء فرح وحماسة وحلم باكتمال التمثال. وانتظروا بفارغ الصبر وصوله إليهم.
رأس التمثال رأس أمه:
في السنة التالية لهذا الحدث انتقل اوغوست بارتولدي من مدينة كولمار الألزاسية، حيث لا يزال منزله قائماً فيها حتى اليوم، إلى محترف صديق له يقيم في شارع غوتنبرغ في منطقة بولونيه بيانكور في ضواحي باريس. وباشر فور انتقاله نحت رأس التمثال الذي قدم في معرض عالمي أقيم في باريس سنة 1878. وفي أيام العرض، أدهشت تقاطيع وجه التمثال الزائرين لرصانتها ودقتها من دون أن يعرفوا أن صاحبة وجه التمثال هي أم النحات بالذات.
هكذا حقق بارتولدي التمثال قطعة بعد قطعة، وبعدما اتخذ العمل الفني شكل نموذج حبيبة النحات، غادر هذا محترف صديقه وسكن في شارع شازيل في باريس، وهناك التحق به غوستاف ايفل الذي صمم برج إيفل الشهير، ليضع الحديد المشبك للتمثال. وتم صنع التمثال الضخم الذي لم تقع العين على مثله منذ عصر المصريين القدماء. أما ثياب التمثال فقد صنعها بارتولدي من أوراق ذهبية متداخلة بعضها في بعض بحيث يمكن نزعها بسهولة وتنظيفها وإعادتها إلى مكانها من جديد.
في العام 1879، أي بعد ثلاث سنوات من انتهاء يد التمثال، قام بارتولدي بعرضه كاملاً وسط شارع شازيل. وبقي التمثال فيه حتى العام 1884. وفي 4 تموز يوليو من ذلك العام، أعيد تقطيع التمثال إلى أجزاء صغيرة تم وضعها في مئتين وعشرة صناديق نُقلت في قطار خاص إلى مدينة روان ثم إلى الايزير. في 19 حزيران (يونيو) 1885، رحل تمثال الحرية الأميركي على ظهر باخرة إلى مدينة نيويورك. إذ استقبلها في مرفأ المدينة جمهور غفير راح في ذورة حماسته يلوَّح لها ويصفق.
في أثناء صنع التمثال في فرنسا، كانت اللجنة الفرنسية – الأميركية المشرفة عليه تهتم ببناء القاعدة الضخمة التي سيوضع عليها. غير أن الصعوبات المالية كانت تعترضها. وتوصل الفرنسيون هناك إلى حل بإصدار ثلاثمئة ألف ورقة يانصيب لصالح بناء قاعدة التمثال وجمع أجزائه نهائياً وتركيبه. وهكذا استطاع جوزيف بوليتزر مدير صحيفة “ذي وورلد” أن يجمع مبلغ مئة ألف دولار لهذا الغرض. وقام المهندس ريتشارد هنت بتنفيذ بناء القاعدة التي بلغ ارتفاعها خمسين متراً.
ودشن تمثال الحرية في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1886. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم راح ملايين الزوار يتسلقون الدرجات المئة وسبع وستين المؤدية إلى قدم التمثال، ويتسلقون مئة وإحدى وسبعين درجة المؤدية إلى الشعلة في يده. وصار تقليدياً في الآونة الأخيرة أن يعمد المسؤولون عن صيانة التمثال إلى تغيير بطاريات المصاعد الكهربائية الموضوعة تحت تصرف الذين لا يستطيعون تسلق الدرج الطويل، وذلك في كل ذكرى لعيد الاستقلال الأميركي، نظراً لكثافة الجمهور الذي يزور التمثال في هذه المناسبة.
تمثال حرية لباريس:
حين عاد المؤرخ ادوار دولابولاي من أميركا إثر حفلة التدشين، فكر فوراً في صنع تمثال حرية مماثل لمدينة باريس. وكلف محترفين مهرة بصنع تمثال من البرونز لكن بطول تسعة أمتار فقط. ونصب هذا التمثال على جسر جزيرة الأوز على نهر السين بحيث يتمكن المتنزهون في المراكب السياحية من مشاهدته. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المارة في المنطقتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة في باريس، إذ يفصل نهر السين بينهما، وللعابرين اليوميين بالسيارات على الطريقين الطويلين المحاذيين له. واسم الجسر الذي رُكَّز فوقه التمثال، هو “البوغرونيل”.
كان تمثال الحرية الفرنسي عُرض في ساحة الولايات المتحدة الأميركية في باريس طوال أربع سنوات قبل أن ينصب على الجسر المذكور. كذلك شاهد الباريسيون في تلك الفترة تمثالين آخرين للماركيز لافاييت يشد بيده يد جورج واشنطن. والمعروف أن الماركيز لافاييت كان ذهب على رأس جيش فرنسي إلى الولايات المتحدة الأميركية ليساهم في معركة تحريرها والتبشير بحقوق الإنسان وحريته. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية أصيب التمثال البرونزي بشظية قنبلة شوهته لأنها ضربت كتفه وعنقه. وبقي التمثال العتيد مشوهاً وآثار الزمن بادية عليه حتى سنة 1986، إذ تقرر ترميمه أسوة بما كان يُستعد له في ذلك الحين، في الولايات المتحدة الأميركية، للاحتفال بمرور مئة عام على نصب تمثال الحرية ومرور مئتي عام على الاستقلال الأميركي.
إذا كان ترميم تمثال الحرية الأميركي استغرق خمس سنوات، فإن تمثال الحرية الفرنسي احتاج فقط إلى ثمانية أشهر لإعادة حلته الجديدة إليه. وقد دشن تجديد التمثالين الأميركي والفرنسي سنة 1986 في آن واحد. في فرنسا تم التدشين بحضور رئىس الوزراء الفرنسي جاك شيراك يومها، والسفير الأميركي في باريس م. رودجرز. أما في الولايات المتحدة الأميركية فقد جرى الاحتفال في المناسبة على أعلى المستويات، أي بحضور الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران إلى جانب الرئيس الأميركي رونالد ريغان، حينذاك.
وإصلاح تمثال الحرية الأميركي تم بتعاون فرنسي على كل صعيد. بدأ ذلك سنة 1981. ووقع الاختيار على حرفيين فرنسيين للقيام بهذه المهمة. ففي مصانع شامبنوا للتعدين في مدينة ريمس الفرنسية، قام الحرفيون باعادة تصنيع الشعلة الضخمة. وقام كل من فابريس وروبرت جوهارد الاختصاصيين في فن التذهيب، بصناعة خمس آلاف ورقة ذهبية مضروبة بشكل دقيق وذلك من أجل إعادة البريق إلى الشعلة التي يحملها التمثال بعد مرور قرن كامل عليها.
تمثال حرية من الشوكولاته:
خلال فترة التدشين الجديد، أي سنة 1986، قدم التلفزيون الأميركي إلى مشاهديه الذين يبلغ عددهم 60 مليون شخص، فيلماً عن تمثال الحرية استمر عرضه ثلاث ساعات. وفي ذلك الفيلم، أسند دور امرأة بارتولدي إلى الممثلة الفرنسية المعروفة كوريت توزيه. وحسب الاحصاءات، كان واحد من كل عشرين أميركياً فقط يعرف أن تمثال الحرية الرائع هو نموذج مكبر لسيدتين فرنسيتين. وفي مدينة لوس آنجليس تصل نسبة المعرفة تلك إلى 7 بالألف. وفي حال معرفتهم بالأمر فالجواب يكون أن ايفل هو الذي صنع التمثال كما صنع البرج الباريسي الشهير الملتصق باسمه.
لذا لم يكن غريباً أن يتجند الإعلام الفرنسي ككل من أجل فتح ملف تمثال الحرية الأميركي من جديد سنة 1986، وأن يبارك اختيار فترة التدشين الجديد يوم 4 تموز (يوليو) من تلك السنة، وهو عيد الاستقلال الأميركي الذي ساهم به الفرنسيون، والذي يقع قبل عشرة أيام من ذكرى 14 تموز (يوليو) الفرنسية، أكبر عيد وطني في فرنسا. في حين ان ذكرى نصب التمثال تصادف يوم 28 تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، وفي تلك السنة بالذات، قام النحات الفرنسي اصلان بصنع أعداد كبيرة من نموذج تمثال الحرية ووزع ألفين من نماذجه هذه على مراكز البلدية في فرنسا. أكثر من ذلك عمد مصنع فالرهونا للشوكولاته إلى صنع تمثال الحرية من الشوكولاته وفق قالب بارتولدي الأصلي. وتطلب التمثال 2,500 كيلوغرام من الشوكولاته. وبلغ طوله أربعة أمتار ونصف. وتم نقل التمثال مقطعاً بواسطة رجال الإطفائية إلى مطار رواسي في باريس، إذ نقلته طائرة من شركة الخطوط الجوية الفرنسية إلى نيويورك. وهناك عرض في فندق ميريديان قبل أن يعاد تقسيمه أجزاء ويباع في المزاد العلني. وكانت شكولاته التمثال من النوع المر والقاسي الذي يقاوم الحرارة.
ويذكر أيضاً أن أربعة آلاف شخص فقط كان لهم حظ حضور حفلة الذكرى المئوية لإقامة تمثال الحرية الأميركي ليلة 3 تموز يوليو 1986، حين قام كل من رونالد ريغان وفرنسوا ميتران باشعال مشعل الحرية في يد التمثال من على ظهر حاملة الطائرات جون كنيدي. ودفع كل من الحضور خمسة آلاف دولار ثمن تذكرة حضور حفلة السهرة التاريخية. أما خارج إطار السهرة الرسمية، فقيل إنه تم تأجير الزاوية الواحدة من زوايا نوافذ البنايات الشاهقة المطلة على تمثال الحرية بحوالى عشرة آلاف دولار.
الحرية والهجرة:
لماذا اختير مرفأ نيويورك لإقامة نصب تمثال الحرية فيه؟ لأن هذا المرفأ كان يرمز إلى الحرية بالنسبة إلى ملايين المهاجرين. كان بمثابة الأرض الموعودة لقلوب مليئة بالآمال، وعبقة بالطموح. كان مفتاح الأرض الجديدة التي فتحت ذراعيها لجميع الناس، على اختلاف مشاربهم، خلال عشرات السنين. كانوا نساءاً ورجالاً وأطفالاً، يعتمرون القبعات المهترئة ويشدون على ظهورهم الحقائب البالية أو علب الكرتون المربوطة بخيطان سميكة. وكان هؤلاء يقفون صفاً طويلاً أمام مكتب الهجرة في ايليس ايسلند وينتظرون. لم تكن هذه البقعة من الأرض تشكل إلا جزءاً صغيراً جداً من أميركا، إلا أنها كانت المعبر إلى الحرية. وفوقها أقيم نصب تمثال الحرية.
المصدر: أميركا – يو بي أي، “الحياة”