صادف هذا الأسبوع مرور الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، اليوم الذي جرحت فيه القوة الكبرى في العالم، في مكمني قوتها: الاقتصاد والمؤسسة العسكرية. ففي ذلك اليوم استهدفت هجمات انتحارية، نفذها تنظيم القاعدة، بطائرات مدنية، برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك؛ رمز القوة الاقتصادية، كما استهدفت جزءاً من مبنى البنتاجون في العاصمة الأمريكية واشنطن، رمز القوة العسكرية.
وفي حينها تنبأ بعض المحليين السياسيين بأن الحدث هو بداية تغيير في موازين القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية، لغير صالح أمريكا، وبأن عالم ما بعد سبتمبر سيكون المقدمة لانهيار الإمبراطورية الأمريكية، والتهيؤ لانبثاق نظام عالمي جديد مغاير للنظام الذي ساد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
أول إسقاطات هذا الحدث، هو تغير السياسية الأمريكية تجاه الدول الأخرى، وعودة المكارثية، بوجهها القبيح، وتقسيم العالم إلى فسطاطين: فسطاط الخير وفسطاط الشر، وأن «من لم يكن معنا فهو ضدنا». أعلنت الإدارة الأمريكية حرباً عالمية على الإرهاب.
وضعت أفغانستان والعراق في أعلى قائمة محور الشر، الذي أعلنه الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن. أفغانستان بسبب معلن هو احتضانها لزعيم القاعدة أسامة بن لادن، ولأسباب مضمرة تتعلق بثرواتها وبموقعها الاستراتيجي. أما العراق فقد كانت الهيمنة عليه، هدفاً أثيراً ل«عتاولة» السياسة الأمريكية، منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم، قبل أكثر من ربع قرن على هجمات سبتمبر 2001.
احتلت أمريكا أفغانستان ثم العراق. والهدف المعلن هو القضاء على الجناة الذين تسببوا في حوادث سبتمبر. وفي زحمة الانشغال بالفجيعة، غيبت أسئلة كثيرة عن الحدث. كيف جرت؟ ومن له مصلحة حقيقية فيها؟. وإذا كان مرتكب الجريمة هو تنظيم القاعدة، فلماذا يضم محور الشر دولاً عديدة ليست لها علاقة به. ولماذا تم احتلال العراق تحت ذرائع واهية، تكشف زيفها للقاصي والداني بعد احتلال أرض السواد؟.
احتلال العراق كشف عن مشاريع جاهزة لإخضاع المنطقة بأسرها، أوضحت لاحقاً في تقرير مؤسسة راند الذي حمل عنوان الاستراتيجية الكبرى، كما أشار إليها عدد من المسؤولين الأمريكيين بعد الاحتلال مباشرة، وعلى رأسهم وزير الدفاع الأمريكي حينها، دونالد رامسفيلد الذي وصف ما جرى في العراق من فوضى ونهب للآثار، وتخريب وهدم للدولة وحل للجيش العراقي، بأنه «الفوضى الخلاقة»، ومخاض ولادة جديدة لنظام الشرق الأوسط، الذي بشر به شمعون بيريز في مطالع التسعينات من القرن المنصرم.
بعد احتلال العراق دشنت عملية سياسية تقوم على القسمة بين الطوائف والأقليات، وكانت مرحلة جديدة في التاريخ العربي جرى فيها، وبنص الدستور، تغليب الهويات الجزئية، على الهوية الوطنية الجامعة، وتشكيل نظام سياسي جديد في البلد المحتل، بوحي من هذه الهويات، كمقدمة لاندلاع حروب أهلية، وتعميم الفوضى عربياً، وإعادة تشكيل الخارطة السياسية، للبلدان العربية على مقاس تلك الهويات.
لم يكن ما حدث بعد ما عرف ب«الربيع العربي»، سوى استكمال لما جرى في أرض السواد. فبغض النظر عن الشعارات التي رفعت في الأيام الأولى للحركات الاحتجاجية، فإن النتائج التي تمخضت عنها، صبّت جميعاً في مشاريع التفتيت. فهناك حروب أهلية اشتعلت في بلدان عربية عديدة في العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال والسودان، إضافة إلى مشاريع تفتيت يجري تنفيذها ببطء في عدد آخر من الأقطار العربية.
تزامنت الذكرى العشرون مع حدثين مهمين، الأول هو الانسحاب الفعلي للقوات الأمريكية من أفغانستان، وتلميع صورة حركة طالبان، تمهيداً للتعامل السياسي معها لاحقاً، في محاولة ربما لن يقدر لها النجاح، لاستنساخ التجربة الأمريكية مع فيتنام، حيث الانسحاب من الباب، والعودة من النافذة في شكل تحالفات عسكرية، وعلاقات اقتصادية متينة، بما يعني عودة جديدة لما يوصف في الأدبيات السياسية ب«الاستعمار الجديد». والحدث الآخر هو الكشف لأول مرة عن الملفات السرية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، بتوجيه مباشر من الرئيس جو بايدن، بما يعني طي صفحة تلك الأحداث بشكل نهائي بعد أن استخدم الغموض المتعمد، كوسيلة للضغط على دول المنطقة وابتزاز أموالها وثراتها.
في الذكرى العشرين لأحداث سبتمبر، نلحظ تقهقر مشروع الشرق الأوسط الجديد، واختفاء شعارات «دمقرطة» المنطقة ونهاية التاريخ، ولعلها تكون مناسبة لخلق وعي عربي جديد، يرفض استمرار نزيف الدم، ويرى في تسعير الهويات الجزئية خطراً رئيسياً على الأمة، ويعمل من أجل نهوض عربي جديد.
المصدر: الخليج