كاتب سعودي
كان الانسحاب الروسي المتدرج من سورية بمثابة المفاجأة لكل المتقاطعين مع أزمة سورية قاهرة ومؤلمة، الدب الروسي ظل يراوغ ويستفز ويناور ويلعب على أكثر من حبل ممكن في المشهد السياسي، كثير من المتفائلين يرون أن هذا الانسحاب يحمل في مكوناته المضي جدياً لصفقة مثمرة بين القوى الكبرى نحو أن تكون سورية بلا بشار في أقرب وقت، وإن كان هذا التفاؤل ذا درجة مضطربة، خصوصاً أن موسكو لم تبد أي نوايا حقيقية لزرع بذور السلام والعمل على تسوية نقية لأزمة هي الأكثر استفزازاً على مر الأعوام الفائتة، حمل هذا الانسحاب جملة من التأويلات والتوقعات، وبعثر في الوقت ذاته جملة من الأوراق المنثورة على الطاولات المكهربة سياسياً، ولا يجب أن ننسى في أن مفاجأة الانسحاب تشابهها في تاريخ مضى مفاجأة في التدخل السريع والصادم لكل الذين ظنوا من روسيا أنها ستقف إلى صف المتعاطفين مع المأساة السورية لا المضاعفين لها والمتاجرين بها ولو على حساب الأبرياء والمقهورين.
اقرأ الانسحاب بشيء من «التشاؤل»، وهو خليط من التفاؤل والتشاؤم، لأن التدخل الروسي في البدء لم يكن على صلة بالمطلق بالنظافة والقبول ومن ثم فلن يكون الانسحاب بعيداً عن ذاكرة وتفكيك عار الدخول، وإن كان القرار الروسي جاء هذه المرة في توقيت يتضمن الإعلان عن محادثات جديدة وجولات سلام أخرى ضمن العمل التنظيري والمضيع للزمن حتى تاريخه «مفاوضات جنيف».
يظل السؤال الأكبر يقول: «هل اكتملت مهمة بوتين في سورية؟ القدرة على إحضار إجابة لمثل هذا السؤال المربك ضعيفة إذا ما اتفقنا على أن روسيا لا يمكن أن نصفها بصاحبة النوايا الصادقة وإذا ما عرفنا أن لروسيا كثيراً من المهام تعبث بها هناك وهناك وقد تؤدي مهمة في مكان ما على أن تحصد النتائج في مكان آخر، وربما يمكن الحديث في ظل هذه الأجواء المتقلبة عن أن قواعد اللعبة تغيرت وبوصلة الصفقات السياسية أخذت منحى آخر ليس للطاغية بشار فيها الأهمية القصوى ذاتها في مرحلة انقضت بل بات من العملي جداً والمثمر أن تعمل مجمل هذه الصفقات على أن يرحل عاجلاً من سلطة تمتع فيها بكمية من السواد الهائل والإجرام الحقيقي الذي ذهب ضحيته 400 ألف قتيل وشرد بمعيته الملايين.
لا مستقبل لروسيا في سورية إلا كما يتوقع لمستقبل بشار بالضبط، مستقبل مستنزف مرهق غير مستساغ ومرشح لمزيد من الدمار والويلات والحرائق التي يصعب إطفاؤها، وقد فكرت روسيا في هذا السطر ولو بشكل غير مباشر، وكم من باب للتأويل فتحه بوتين من هذا القرار الخاطف لكنها أبواب مبنية على حزم من الشكوك وتغليب انسحاب التكتيك على أي عبارة أخرى، لا سيما أن الرعاية الروسية المعلومة للتأزيم/ التقسيم السوري ترجح مثل هذا، ولكن أيضاً ثمة أبواباً ضيقة تشير إلى أن روسيا تريد حفظ ماء وجهها من مشروع العطالة السياسية الذي ترسمه الأحداث المضطربة، وترغب في إيقاف الارتفاع الهائل لفاتورة التدخل في سورية من دون أن تكون لهذا الدفع أي ثمار سوى رصيد هائل من الكراهية وخسارة الحلفاء الأهم والأبرز.
المصدر: صحيفة الحياة