كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
قبل سنوات قرأت لأحد المفكرين الأميركيين ينذر بأن قدرة التكنولوجيا في زمن ثورة المعلومات على أرشفة كل كبيرة وصغيرة في حياتنا سيكون له أثر سلبي حاد على الإنسانية. حسب رأي هذا المفكر، هناك نمو خرافي في السنوات الأخيرة في “نشر” كل ما يتعلق بحياتنا بتفاصيلها الصغيرة، والشركات القائمة على التكنولوجيا تفرح بذلك؛ لأن كل خططها التجارية المستقبلية قائمة على الاستفادة من هذه المعلومات الشخصية بشكل أو بآخر، ولكن الناس ستدفع ثمن ذلك غاليا.
تذكرت ما كتبه هذا المفكر لما رأيت السجال بين الأستاذ داود الشريان وبين الدعاة الذين هاجمهم في برنامجه، ولكنني لم أحب أن أعلق على ما حصل وقتها حتى لا أصبح جزءا من هذا الجدل. الأستاذ الشريان هاجم الدعاة بناء على مواقف من الأرشيف، جردت من الظروف التي فرضتها، وجاء خصوم الشريان الغاضبون منه، وفعلوا الشيء نفسه، وتحول النقاش إلى عملية فتح ملفات قديمة مع تجريدها الكامل من الظروف التي أحاطت بها، والمعاني التي مثلتها في ذلك الوقت.
من جهة، المجتمع يحتاج للإصلاح، ويحتاج لمعالجة المشكلات الملحة، والنقد الذاتي، ويحتاج لمواقف حاسمة كذلك، ولكن فكرة الإصلاح في جوهرها مرتبطة بالتغيير، والنمو، وتطور الأفكار والشخصيات التي تقف وراءها. من حق شخصيات عامة مثل الشريان والعودة والعريفي وغيرهم أن يطوروا أفكارهم، ووجود الأرشيف الرقمي لما قالوه تلفزيونيا أو على تويتر لا يحرمهم من هذا الحق، تماما كما يحق لي ولك ولكل شخص أن يتغير مع الزمن ويطور نفسه.
استخدمت المثال السابق؛ لأنه معروف فقط، وإلا فهناك عدد يومي هائل من حالات الهجوم على مثقفين وإعلاميين وأفراد بناء على تاريخ قديم، أسهمت تكنولوجيا المعلومات في التقاطه بعدما كان هذا مستحيلا. عندما ندخل في حالة من اللوم والنقد القاسي على مستوى كافة شرائح المجتمع، فنحن ندخل في حالة “يعض” فيها جزء من جسد المجتمع جزءا آخر بدعوى المعاقبة على الماضي، بينما هو في الحقيقة يؤذي نفسه. المجتمع في رأيي عندما يدخل في حالة اللوم والهجوم الذاتي، فهو لا يعالج قضية ولا يحقق التغيير المطلوب، بل يسمح فقط للجروح أن تتسع.
هناك نظرية أدبية شهيرة اسمها “موت المؤلف”، والمقصود بها هنا أن النص “كلمات أو فيديو أو غيره” عندما تخرج من المؤلف، يختفي دور المؤلف، ويتطور واقع النص ووضعه حسب فهم الناس له عبر الأجيال، أي أنه يصبح ملكا للناس. أنا أرى أن هذه النظرية تشرح بعض ما يحصل اليوم. المشكلة مع الشبكات الاجتماعية أن الكم غير المسبوق من العبارات والأفكار التي تبث من خلالها يوميا، يسمح لكل شخص منا أن ينسج أي رواية عن أي شخص، ويبني صورة ذهنية عنه حسبما يراه مناسبا. عندما تشاهد كيف يتعامل المصريون عبر الشبكات الاجتماعية مع تاريخ كل شخص السياسي وكلماته رغم أن سياقها كان مختلفا في عام 2011 أو عام 2012 عن السياق الحالي، وتشاهد الانقسام المؤلم الذي يعانيه النسيج الإعلامي المصري، ستدرك خطر المحاسبة الذاتية للمجتمع القائمة على الأرشيف، بعيدا عن السياق التاريخي للفكرة، وبعيدا عن فهم أننا نتصرف على الشبكات الاجتماعية بتلقائية وسرعة تجعل التحليل العميق لكل ما نقوله عبثا وخطأ فادحا.
هناك إدراك أكبر لهذه القضية في الغرب، وهناك حديث دائم عن إيجاد طرق تسمح للإنسان بـ”مسح” تاريخه من على الشبكات الاجتماعية، ولكن في الحقيقة هذا مستحيل، ولو شرعته القوانين، فالتكنولوجيا أخرجت كل المعلومات عن السيطرة الإنسانية. هذا الخوف من الأرشفة يشرح لنا مثلا لماذا تطبيق مثل “سناب تشات” انتشر بشكل سريع جدا؟ وذلك لأنه يمسح بعد دقائق كل ما نشرت ولا يحتفظ بها في الأرشيف، ولا أستبعد خروج شبكات اجتماعية أكبر قائمة على المفهوم نفسه.
عملية الإصلاح والتغيير في أي مجتمع تحتاج لمستوى عال جدا من التسامح والمغفرة بين فئات المجتمع. ما مضى قد مضى. هذا ينطبق على المفكر والإعلامي والداعية والمراهق والشابة، هذا ما يتوافق مع باب التوبة المفتوح الذي شرعه الله لعباده، وهذا ما يحتاجه أي مجتمع يريد أن ينظر للأمام دائما وليس للخلف أبدا.
المصدر: الوطن أون لاين