كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
بعقد عقود طويلة من التركيز في الدول الغربية على تحقيق الأرباح التجارية بغض النظر عن سبل تحقيقها وعن مساهمة تلك الأرباح في نمو المجتمع، أي بعد عقود من تطبيق “الرأسمالية” البحتة؛ ظهر جيل جديد من رجال الأعمال الذين ينادون بتغيير هذا الوضع، وينادون بوضع أطر أخلاقية للعمل التجاري وبإيجاد أفكار فعالة لتحقيق المشاركة الفعلية والبناءة لرجال الأعمال في بناء مجتمعاتهم.
أحد هؤلاء هو رجل الأعمال البريطاني الشهير ريتشارد برانسون، رئيس شركة فيرجن، والذي قولب أفكاره في كتابه Screw Business as Usual (أي: قل وداعا للبزنس كما نعرفه)، والذي شرح فيه مفاهيم عديدة مبسطة في هذا الإطار. برانسون مشهور بأفكاره غير الاعتيادية في مجال العلاقات العامة، ولا يمكن طبعا الادعاء بأن أعماله الخيرية ليست ذات منطلق إنساني، ولكنها بالتأكيد أفادت مجموعته واسمه على سبيل العلاقات العامة، كما هو واضح من الكتاب. لكن لو تأملت فيما قدمه برانسون على صعيد الأرقام والمشاريع وحتى المفاهيم، لوجدت أنه لا يزيد أبدا عما قدمه رجل أعمال مثل الشيخ سليمان الراجحي أو غيره كثيرون في المملكة العربية السعودية، حيث يمكن ببساطة القول إنه وغيره من رجال الأعمال قدموا المليارات للعمل الخيري والإغاثي والإنساني.. لماذا يشتهر برانسون وبيل جيتس ووارن بوفيت وغيرهم عالميا في هذا المجال، بينما يبقى ذكر رجال الأعمال السعوديين البارزين محدودا رغم ضخامته واتساع نطاقه؟
هنا خمسة أسباب رئيسية للموضوع كما أراه:
1- الأفكار: رجال الأعمال الغربيون ينطلقون في كل أعمالهم من أطر مهنية معينة، تتطلب وضع الأهداف والرؤية قبل الانطلاق، ويقوم بذلك عادة مستشارون استراتيجيون على مستوى متفوق من التفكير والتعليم. هذا ينطبق على جهودهم الخيرية، مما يبعدها عن العشوائية، ويجعل من السهل ربطها برؤية واضحة تميزها عن الأعمال الخيرية الأخرى. مع الزمن، تتطور هذه الرؤى لتصبح نظريات مصغرة وأطرا فكرية يمكن الحديث عنها والاقتداء بها والتوسع فيها. بالنسبة لرجال الأعمال السعوديين والعرب، فمثل هؤلاء المستشارين محدودون جدا، والأعمال الخيرية تمت لسنوات طويلة بدون وجود هذه الرؤى المنظمة والأهداف الواضحة، مما حرمها من التطور عبر الزمن، وتحولها إلى فرضيات ثقافية يمكن الحديث عنها. نفس الأمر ينطبق على التأليف، فالمؤلفون الغربيون من رجال الأعمال يتحدثون عن تجربتهم ومعهم محررون يساعدونهم في تحويل خواطرهم إلى كتب يقرؤها العالم، وهذا كما هو معروف غير متوفر عربيا.
2- التجارب الذاتية: مجتمعاتنا شديدة الحساسية عندما يتحدث الشخص عن نفسه، وهذه الحساسية تنتقل إلى رجال الأعمال ليصبحوا شديدي الخجل من ذلك، وخاصة بالنسبة لعمل يبتغون به وجه الله، ويعبرون به عن رؤاهم الإنسانية. باسثتناء الأمير الوليد بن طلال (الذي استفاد من التجربة الغربية)، يكاد لا يوجد رجل أعمال سعودي يتحدث عن أعماله.
هذا النقد الحاد الذي تزايد من تصاعد “تويتر” يجعل من الصعب توثيق التجارب الشخصية بأريحية كما يفعل الغربيون. هذا ومن جهة أخرى، يحرم المجتمع دائما من خلق النماذج والقدوات التي تقود تطوره، بكل أسف، ويجعلنا دائما نقرأ عن إنجازات مضيئة غربية ولا نرى المقابل العربي رغم وجوده فعلا. أذكر أنني حاولت قبل سنوات إعداد مشروع إعلامي يعرف بالإنجازات الخيرية الضخمة لرجال الأعمال السعوديين، وفشل المشروع فشلا ذريعا مع تجنب معظمهم الحديث المفصل عن إنجازاتهم. وأعرف قصة فشل مماثلة عن إنجازات رجال الأعمال الحضارم في المجال الخيري.
3- الأعمال الخيرية في العالم الإسلامي وفي المملكة قامت لفترة طويلة وما زالت على نطاق واسع تقوم على فكرة كتابة شيك يأخذه المحتاج أو الجهة المستفيدة، وهذا قلل من فعالية تلك الأعمال (فضلا عن تورطها في مشاكل دولية، لأنها لم تلتزم بأسس المحاسبة وتحويل الأموال الصحيحة). في الغرب هذا تغير تماما، وصارت الأعمال الخيرية تدار كما تدار الشركات، فهناك برامج وأهداف وخطط مكثفة ومديرون مؤهلون ومحاسبة سنوية ونتائج. الفارق الوحيد أن النتائج هنا هي إنجازات على الأرض (وليست أرباحا).
4- بالنسبة للغربيين، العمل الجيد هو سمعة جيدة، وهذا أمر اهتم به الغربيون، وهو اهتمام يتعدى شركاتهم ليصل إلى مجتمعاتهم التي تحصل على سمعة جيدة كذلك، كما يتم التصريح به بشكل واضح. هذا التفكير لم يكن متوفرا لدينا على الإطلاق. تخيل لو أن العالم كان يرى الجهود السعودية، كما هي وبدون تشويه، مع أطر فكرية، وتحرير أنيق لها، كيف ستكون صورة رجال الأعمال السعوديين أمام العالم وصورة المجتمع السعودي ككل؟
5- كثير من رجال الأعمال المسلمين والسعوديين بقي محدودا في الأطر المحلية والإسلامية، وهذا أسهم في انعزال التجربة وعدم امتدادها عالميا. السبب الأكيد لذلك أن الاحتياجات الأساسية للمجتمعات الإسلامية ضخمة جدا، بينما في المجتمعات الغربية هناك رفاهية تسمح بالحديث عن مفاهيم عالمية متقدمة مثل الغذاء العضوي. هذا أمر لا يتحمل رجال الأعمال مسؤوليته، بل هو واقع مرير للعالم الإسلامي يفرض ذلك.
نحن بحاجة إلى تطوير لمفاهيم العمل الخيري والعطاء الاجتماعي. الشركات السعودية تحقق أرباحا بالمليارات، ولكن برامجها الخيرية المعلنة محدودة وتقليدية ولا نرى أثرها بوضوح. دائما كنت أردد أن قضية توظيف العاطلين عن العمل في السعودية كان يمكن أن تعالج بالكامل عن طريق مثل هذه البرامج.
رمضان شهر العطاء، ولكن العطاء يصبح أعظم وأعمق تأثيرا عندما يكون مدروسا على أسس سليمة.
المصدر: الوطن أون لاين