عمار بكار
عمار بكار
كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد

تبقى “صاحبة الجلالة” ولكن ببلاط جديد!

آراء

إذا كانت “صاحبة الجلالة” أو الصحافة ممتنة يوما لجوتنبرغ، الرجل الذي اخترع الطباعة، فربما تحتاج لتكون أكثر امتنانا لمن اخترع “الآيباد”؛ لأنه كان النور الذي منحها المخرج بعد نفق مظلم من الانهيارات والخسارات المادية.

في السنوات الخمس الأخيرة، بدا واضحا التراجع في أداء الصحافة الورقية، وحدث إغلاق لعدد كبير من الصحف والمجلات حول العالم، رغم كل المحاولات غير المجدية لإنقاذها، فالصحافة الإلكترونية والشبكات الاجتماعية بدأت تسيطر على الموقف، فهي تملك كل ما لا تملكه الصحافة الورقية في عالمنا الجديد. لكن هذا كله في طريقه للتغير كما يبدو في هذا العام، ففي العام الماضي حدث تحول هام. إذ أظهرت الدراسات والإحصاءات إقبالا واضحا من الجمهور على النسخ الإلكترونية من المجلات والصحف، والمقصود هنا النسخ التي تحافظ على نفس إخراج المجلة والصحيفة، ولكن يمكن استعراضها وتصفحها من خلال الأجهزة اللوحية (مثل آيباد) والموبايل أو على سطح الكمبيوتر، بل إن هذا النمو يتجاوز في الحقيقة المواقع الإلكترونية لتلك الصحف.

في الأسبوع الماضي، اعتمدت ABC وهي المنظمة المعنية برصد انتشار الصحف والمجلات، والتي تؤثر تقاريرها بشكل كبير على صناعة الإعلان، اعتمدت معيارا جديدا لرصد انتشار الصحف، يضم النسخ الورقية والنسخ الرقمية معا، وذلك ليكافئ تلك المجلات والصحف، والتي استطاعت الانتشار بشكلها نفسه من خلال المنصات الرقمية الجديدة، مما سيغير المعادلة ويغري المؤسسات الإعلامية بالمزيد من الاسثتمار في البعد الرقمي. هذا يعني باختصار أن عام 2013 سيشهد تغيرا كاملا في خريطة انتشار الصحف والمجلات، لنسمع عن نمو وقصص نجاح ونمو إعلاني، بعد قصص الفشل الحاد التي دأبنا على سماعها لسنوات عدة.

واحد من الأسباب التي شجعت ABC على هذا التحول رغم حرصها طوال العقود الماضية على الفصل بين الوسائل المختلفة في النجاح (خدمة للمعلن) أن الإحصاءات تؤكد أن جمهور النسخة الورقية هو نفسه جمهور النسخة الإلكترونية، فـ(80%) من جمهور النسخ الإلكترونية للصحف والمجلات كان قبل عام من جمهور النسخ الورقية.

الحياة ستدب من جديد في عالم الصحافة بشكلها الرقمي الجديد؛ لأن النسخ الورقية، يمكنها أن تضم ملفات فيديو بدلا من الصور، ويمكن للجمهور أن يشتري المنتج المعلن عنه في الإعلان عبر الكردت كارد من داخل تطبيق الموبايل، وتحصل المجلة بذلك على نسبة من المشتريات، كما يمكن ببساطة خلق نسخ متعددة من المجلة نفسها لتتناسب مع فئات عدة من الجمهور. ولكن ليس هذا فقط ما يجعل عالم الصحافة في حماس شديد للتغير الجديد، لدرجة أن مجلة عريقة مثل نيوزويك تخلت العام الماضي عن نسختها الورقية واكتفت بنسختها الرقمية، بل إن الميزة الأساسية الأخرى هي أن المجلات والصحف ستصبح أقل تكلفة بشكل كبير، فلا توجد تكاليف طباعة وورق وتوزيع ونسب للموزعين وحملات للاشتراكات، والتكاليف الضخمة حتى تتمكن من الوجود جغرافيا في عدة دول، فالجمهور يدفع نفس ثمن المجلة بنسختها الإلكترونية، ويحصل عليها مباشرة في أي مكان في العالم، مما يعني قدرة المجلة على استثمار المزيد من المال في محتوى أفضل وأكثر جاذبية، وتطوير نفسها في العالم الجديد.

من المتوقع هذا العام أن تغلق عدد من الصحف والمجلات مواقعها الإلكترونية التقليدية في دعم لنسخها الإلكترونية على الآيباد والموبايل، ولأنها تجد طريقا أفضل للمنافسة من خلال إخراجها الجذاب الذي أحبه الناس لعقود عدة من الزمن مقابل الإخراج الأقل جاذبية للمواقع الإخبارية الإلكترونية، وخاصة أن الصحف والمجلات لم تستطع منافسة الصحافة الإلكترونية التي تأتي بالخبر أولا بأول، بينما هي تنتظر لليوم التالي، رغم أن الصحف حاولت كثيرا تجاوز هذه المشكلة ولكن معظم هذه المحاولات باء بالفشل.

مشكلة النسخة الإلكترونية ذات الإخراج الورقي، أنها لا تدعم التفاعلية بشكل جيد، فالجمهور المتعطش دائما للتفاعل وإبداء الرأي، لن يستطيع فعل ذلك بشكل جيد مع المجلات بنسخها الرقمية، ولكن عموما كانت مواقع المجلات فاشلة في هذا الأمر، كما أن الدراسات (مثل دراسة شهيرة قامت بها الإيكونوميست) توضح أن الجمهور لا يحب كثيرا التعليق على ما يقرؤه على الآيباد، بل يميل أكثر للقراءة في حالات الاسترخاء دون الرغبة في بذل الجهد التفاعلي.

ملخص كل ما سبق، الصحف والمجلات كما نعرفها كتب لها عمر جديد هذا العام مع الإقبال السريع على شراء أجهزة الموبايل الذكية والكمبيوترات اللوحية (الآيباد) وذلك لأنه صار يمكن للجمهور تصفحها بإخراجها السهل والجذاب، ونفس الأساليب التحريرية، وبنفس الطريقة الكلاسيكية لدمج الإعلان مع النص، والسيطرة على عين القارئ بعيدا عن تشتيت المتصفحات والروابط والمشاركة الاجتماعية والتعليقات. هذا كله يأتي مع ملاحظة أن هناك نموا سريعا في انتقال الإعلان من الإعلام الكلاسيكي إلى الرقمي، ففي الربع الأخير من عام 2012، حصل نمو واسع وصل إلى 12% في بريطانيا على سبيل المثال، وهو نمو فاق كل التوقعات والدراسات التي وضعت في مطلع العام.

على ما يبدو، ستبقى صاحبة الجلالة متربعة على عرشها، ولكنها ستستبدل بلاطها “الورقي” الهش والمكلف والمحدود، ببلاط “افتراضي” يحميها من الانقراض ويجعلها متاحة في كل مكان بميزات أفضل بكثير.
مبروك لكل الورقيين..!

المصدر: الوطن أون لاين