هناك ثلاث أزمات تعانيها أوروبا، اثنتان منها على حدود الاتحاد الأوروبي: روسيا ذات المطامع العسكرية، وشرق أوسط منهار. أما حالة الطوارئ الثالثة فتحدث داخل الاتحاد الأوروبي نفسه – حيث تتصاعد التوترات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.
لقد شهد الشهر الماضي ازدياد حدة جميع الأزمات الثلاث التي تواجه أوروبا. وزادت الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس من المخاوف حول التداعيات المحتملة للعنف والتوترات الدينية في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه جدد الانفصاليون الذين تدعمهم روسيا هجومهم في أوكرانيا، بينما يعني فوز حزب سيريزا في اليونان أنه – للمرة الأولى منذ اندلاع أزمة اليورو – يفوز حزب يساري راديكالي في انتخابات في إحدى دول الاتحاد الأوروبي.
إن المشكلات في روسيا والشرق الأوسط ومنطقة اليورو لها جذور مختلفة جدا، لكنها في الوقت الذي تزداد فيه سوءا تبدأ في أن تتغذى على بعضها بعضا.
شجع الركود الاقتصادي في كثير من أجزاء الاتحاد الأوروبي على صعود الأحزاب الشعبوية من اليمين واليسار. والشعور بانعدام الأمن الذي تتغذى عليه تلك الائتلافات يتعزز كذلك بسبب امتداد الصراع الآتي من الشرق الأوسط – سواء أكان ذلك في شكل إرهاب أو هجرة جماعية غير مشروعة. في بلدان مثل اليونان وإيطاليا، زاد تدفق المهاجرين من (أو عبر) الشرق الأوسط من جو الأزمة الاجتماعية، ما يجعل الهجرة تقريبا أمرا مثيرا للجدل بقدر التقشف.
في الوقت نفسه، يقدم تدخل روسيا العسكري في أوكرانيا للاتحاد الأوروبي تحديه الأكبر في السياسة الخارجية منذ نهاية الحرب الباردة. وإذا عولج الأمر بطريقة غير سليمة، فقد يؤدي إلى صراع عسكري. لقد تمكن الاتحاد الأوروبي، بقيادة ألمانيا، من التكاتف حول صفقة صعبة ومعقولة من العقوبات، لكن صعود التطرف السياسي داخل أوروبا يهدد وحدة الاتحاد الأوروبي بخصوص روسيا – ما يجعل من المحتمل أكثر أن يكون الكرملين أكثر جرأة وأن تتصاعد الأزمة.
واحدة من العواطف التي تبدو أنها ستوحد اليسار المتطرف واليمين المتطرف في بلدان مثل اليونان وألمانيا وفرنسا، هي بمثابة جانب ضعف لروسيا في ظل رئيسها فلاديمير بوتين. يحب اليمين المتطرف سمة المحافظة الاجتماعية لبوتين وتركيزه على الدولة – الأم واستبداديته وعداءه لأمريكا والاتحاد الأوروبي. أما اليسار المتطرف فيبدو أنه احتفظ بمودته التقليدية تجاه موسكو.
من المنطقي تماما بالنسبة لروسيا تشجيع التطرف السياسي داخل الاتحاد الأوروبي. فإذا انهارت وحدة الاتحاد الأوروبي، فإن نظام العقوبات الذي ساعد على عزل روسيا سيبدأ أيضا في التلاشي. لقد عزز بوتين العلاقات مع الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا، إضافة إلى حزب سيريزا في اليونان. وكان أول شخصية أجنبية رفيعة المستوى استقبلها أليكسيس تسيبراس، رئيس الوزراء اليوناني الجديد، هو السفير الروسي. وأعربت أثينا فورا عن معارضتها مزيدا من عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا.
بالنسبة إلى أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية والشخصية السياسية المسيطرة في أوروبا، المشكلات في ازدحام. فهي تتعرض لضغوط داخلية حتى تكون متشددة في تعاملها مع اليونان – لكنها تتعرض لضغوط دولية لإبرام صفقة. وأضافت مغازلة اليونان روسيا بعدا جيوسياسيا لأزمة اليورو، ما يجعل من المرجح أن يضغط الأمريكيون على ألمانيا من أجل الحفاظ على اليونانيين داخل أسرة الاتحاد الأوروبي. (قد يستذكر المؤرخون كيف نشر مذهب ترومان لاحتواء الاتحاد السوفياتي في عام 1947، عندما تحركت واشنطن للحفاظ على اليونان من الوقوع في مدار موسكو).
واحتدام القتال في أوكرانيا هو الآخر يقدم للمستشارة الألمانية مجموعة أخرى من الخيارات الصارخة، لأن المطالبة الصاخبة بتسليح الأوكرانيين تتزايد في الولايات المتحدة وأجزاء من الاتحاد الأوروبي، لكن الروس يصدرون تحذيرات مريعة حول عواقب مثل هذا القرار، وهو أمر يمكن أن يجعل الجمهور الألماني المسالم يشعر بنذر الخطر. الأحزاب الألمانية اليمينية التي تدعو إلى إبداء القسوة نحو اليونان والليونة نحو روسيا هي أيضا ترتبط بمظاهرات “مكافحة الأسلمة” التي اندلعت في المدن الألمانية. إن حكومة ميركل لديها على الأقل ميزة وجود ظروف اقتصادية مواتية على نحو معقول في بلدها. البطالة منخفضة، وتستطيع ألمانيا الاقتراض بأسعار متدنية جدا. على النقيض من ذلك، هناك شعور قوي بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى الرئيسة. فالبطالة تسجل أرقاما من خانتين في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا – ووقوع ثورات على غرار اليونان ضد التقشف الاقتصادي والاتحاد الأوروبي هي أمور ممكنة جدا.
بشكل مقلق، لا تبدو أي من أزمات أوروبا الثلاث وكأنها تميل إلى التحسن. في الشرق الأوسط، تمر كل من سورية وليبيا في حالة من شبه الانهيار. والوضع في اليمن والعراق قاتم. وسلوك روسيا أصبح أكثر تهديدا وليس أقل. وعلى الرغم من مواصلة المتفائلين القول إنه من المحتم أن تبرم كل من اليونان والاتحاد الأوروبي صفقة حول الديون، إلا أن الإشارات المبكرة تشاؤمية – والمواجهة تلوح في الأفق.
كل هذا يبدو وكأنه معادلة من أجل مزيد من التصدع في المركز السياسي في أوروبا. وتُعقَد أوجه تشابه غير دقيقة مع السياسة في الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما أدى الكساد الاقتصادي، جنبا إلى جنب مع بيئة سياسية دولية غير مستقرة، إلى صعود التطرف السياسي وفي نهاية المطاف، الحرب.
لحسن الحظ، لا تزال المقارنات مع فترة ما بين الحربين العالميتين تبدو مغرقة في الخيال، حيث كانت أوروبا وقتها قارة ما زالت تعاني صدمة نفسية بسبب القتل الجماعي خلال الحرب العالمية الأولى. وكانت الدول الأوروبية تفتقر لنظم الرعاية الاجتماعية – ما يعني أن فترة الركود الطويلة ترجمت بسرعة إلى عوز جماهيري.
وتمتلك أوروبا الحديثة مرونة اقتصادية وسياسية، إضافة إلى أساس وطيد من الثروة، كان ببساطة غير موجود خلال ثلاثينيات القرن الماضي. مع ذلك، تعتبر الأجواء الحالية في القارة غير مستقرة ولا يمكن التنبؤ بها، مثل أي شيء أستطيع تذكره خلال حياتي الراشدة.
المصدر: جديون راشمان من لندن -FINANCIAL TIMES – الإقتصادية