كاتب سعودي
تنطبع في أذهان المجتمعات جملة مفردات ومصطلحات نتنازع دوماً حولها، ونختلف في صناعة تعريفات موجبة لها في ظل أننا ننشد برفقتها البقاء في الطريق الوسطي والمعتدل وألا نهدر الوقت في جدل بيزنطي، وصراع لا قيمة له حول القشور لا اللب، في ظل أن حكاية الاتفاق وقصة صناعة التعريف لا تتطلب إلا تفعيلاً للعقل، وتنظيفاً للنوايا، وتهدئة متقطعة للجانب العاطفي الذي نقود به جزءاً كبيراً من مفاهيمنا ورؤانا وقناعاتنا.
من مصطلحات المجتمعات القابلة للتعريف المرن أو بالأصح للتعاطي المزاجي مصطلح «التسامح» وقد تقف جملة من الأسرار خلف المرونة والمزاجية المصاحبة له، ولعل من أقربها أن العقل الباطن يؤكد لنا باستمرار أن لوازم المصطلح وما بعده من تفاعلات وحقائق لا تقبل – من مبدأ الثقة – أن نتجادل ولو على ربع سؤال حوله! إضافة إلى أن الفعل الذي نَنْفُذُ من خلاله إلى «التسامح» لا يتجاوز في أوقات كثر دوائر التنظير والمجهود الشكلي من دون الولوج للتطبيق الحقيقي، ولعلنا نمرر هنا السؤال المباشر الطرح والمطاطي في ما بعد ذلك: هل نحن مجتمعات متسامحة؟
الدفاع بقوة عما نُصِرُّ أنه مصنوع فينا بالفطرة من دون ترو وتثبت واستطلاع عام وقراءة دقيقة لأحداث ومجريات حياة يحسب تهوراً مذموماً، وتسرعاً لن يدفع بنا نحو الأمام بل يعيدنا لطريق خلفي من عيوبه أنه يضيق ويظلم على من يعود إليه، ولعل «المصطلح» إحدى المحطات الشائكة في المجتمعات لتباين واختلاف الخطوط الحمراء، في ظل أن هناك فئات تشاهد هذه الخطوط من زاويا مختلفة، وأبعاد متفاوتة، وكل فئة لها أصواتها التي تطالب وتندد وترفض وتقرر، ولكن بموازين غريبة لينشأ التنازع القبيح، ويمتلئ المجتمع بالشكوك، ويأخذه تضارب في أن المفاهيم التي هي أشبه «بالعلاجات النفسية سريعة المفعول» باتت توزع وتمنح كهبات، لكنها في الوقت ذاته يحرم منها آخرون بلا سبب وجيه سوى أنه لا ضابط لها من الأساس ولا اتفاق عليها منذ البدء.
الأخطاء المتجاوزة للخطوط يجب أن توقف ونقف ضد أصحابها، والمجتمعات المتماسكة الصلبة لا يجدر بها أن تسمح لها بالمرور من خلالها، وعليها أن تبدأ قبل الهجوم وملاحقة المخطئ والمطالبة بعقابه في تبني حماسة موازية ومماثلة نحو معرفة ما الذي سمح للخطأ بأن يُوْلَد ويَتَفَاقَم ويَكْبُر ويَتَنَفَس علناً؟ ولعل الجهد المبذول في هذا الركن كفيل بأن يكشف أوراقاً خفية وينبش جراحاً ما كان لها أن تُنْبَشَ لنستريح ونريح.
التسامح يكمن في التعاطي بوزن واحد مع الأخطاء المتساوية حتى تغلق جل الأبواب وتُلْجِمَ كل الأفواه، ونجعل ما يحدث بعد ذاك جنوناً وطيشاً وقفزاً على كل الأطر والخطوط ومحرضاً على عقاب يليق بتكرار الخطأ، وتهميش بادرة التسامح النبيلة، كل هذا من أجل ألا تتشعب تحليلات يمهد لها الواقع المتقلب وأن مجتمعاتنا تلبس التسامح في حالتين: عند طلب الجماهير أو حين نصدق دجل استيعابه عبر نوايا أفراد عن أفراد، وأيضا من أجل ألا نضبط بعض القضايا والتجاوزات والأخطاء بردود فعل مزاجية بحتة على رغم أن رباط الحلول بيدينا، مفاتيح الإصلاح نملكها، والتسامح فعل نبيل مع من يرجى صلاحه لكن قراءتنا للصلاح لا تبنى بنصف عين أو من خلال الجذور والأشجار والأنساب، يجب أولاً أن نعرف متى يكون التسامح نُبْلَاً ومساواة وعلاجاً فاعلاً؟ ومتى يفسر كضعف وتمييع وتسليم بمقتضى الحال؟
المصدر: صحيفة الحياة