كي نستطيع تكوين أنفسنا بالمستوى الرفيع الذي نرجوه فإن علينا أن نستحضر في أذهاننا دائما أن الإنسان كائن تلقائي فالإقدام أو الإحجام والانجذاب أو النفور يتدفق أو ينساب من الأعماق وبفقدان هذه الجاهزية التلقائية تختفي الفاعلية فمن يتعلم اندفاعًا عن شعور تلقائي متأجج بحب المعرفة أو عن إحساس حاد بحاجته إلى إجابات شافية لتساؤلاته الذاتية التلقائية الملحة لن ينتظر معلماً متأففًا ليلقي عليه معلومات مبذولة ومتاحة يمكنه الحصول عليها بيسر وسهولة فهي متوفرة في مصادر لا تُحصى.
إن إنسانًا مندفعًا تلقائيًا للتعلم ليس بحاجة إلى تلقين ثقيل من معلم ضجر بل إن اضطراره للقسر التعليمي يعوقه أكثر مما يفيده فالتعليم الجمعي الاضطراري يصرف الجادين عن مجالات اهتماماتهم التلقائية ويعوقهم عن الاستقصاء عن القضايا التي تشغل أذهانهم ويستهلك الأعمار ويستنزف الطاقات ويصيب جموع الدارسين بكره التعلم والعزوف عن المعرفة الممحصة والنفور من كل ما يرمز إلى هذا القسر الطويل الممض المرهق..
إن الإنسان كائن تلقائي فقابلياته ليست خاضعة للأمر والنهي بل تتحرك بفاعلية الحب أو الكره.. والانجذاب أو النفور.. والاستحسان أو الاستهجان.. إنها تتحرك بدوافع داخلية ذات استجابة تلقائية لذلك فإنه لا يمكن إرغام قابلياته لهضم مواد تعليمية لم يشعر هو بحاجته إليها وبسبب ذلك تضيع أعمار الأجيال في كل المجتمعات في تعلُّم اضطراري يملأ نفوس الدارسين بكره التعلم والنفور من التعليم والضجر من كل ما له صلة بهذه المعاناة الذهنية والنفسية ويظل هذا النفور ملازمًا لهم فتكون النتيجة تدمير غريزة حب الاستطلاع وتحويلها في اتجاهات ضارة كالهوس بمعرفة الأحوال الخاصة للناس والانشغال بتفاهات القيل والقال وإهدار الوقت في أي انشغال غير مثمر والشعور الدائم بالملل وثقل الزمن..
لذلك فإن الدارسين في كل العالم بعد أن يمضوا أعمارهم في التعلُّم اضطراراً يكتشفون أنهم بقوا معزولين خلال كل هذه السنوات عن المواجهة المباشرة للحياة وأنهم ظلوا من دون مهارات عملية وبعد هذا الاكتشاف المحبط المتأخر يهرعون إلى كتب وندوات وورش وملتقيات وتدريبات تطوير الذات فيستدركون في أسابيع أو في أشهر ما لم يحصلوا عليه في ربع قرن أو يزيد لأنهم بهذا الاتجاه الذاتي التلقائي يتحركون برغبة ذاتية ملحة لتطوير أنفسهم..
إن قابليات الإنسان لا يمكن اغتصابها فحتى الفرد نفسه لا يستطيع إرغام ذاته بأن تحب ما تكره فلا بد أن تتوفر الرغبة في المعرفة والشغف في التعلم.
إن القابليات المعرفية في الإنسان هي أشد حساسية ورفْضًا لما لاتسيغه أو ماترى أنها مكرهةٌ عليه من أكل شيء تعافه النفس وكلما اشتدَّ إحساس الإنسان بذاته وازداد إدراكاً لفرديته اشتدَّ رفضه لما يُراد منه قسرًا وكُرْهًا، إن التعلُّم اضطرارا مضاد لطبيعة الإنسان التلقائية..
ليس هذا رأيًا جديدًا وإنما هو رأي العلم وتشهد له المواقف المعلنة والمتكررة من المفكرين والمبدعين وكما يقول آرثر وينتر وروث وينتر في كتابهما (بناء القدرات الدماغية): (فلا غرابة أن نجد الكثيرين من الأفراد المبدعين يكرهون المدرسة وقيودها وأنظمتها الروتينية) إن أعظم فترات العمر لاستثمار القابليات المفتوحة المطواعة وبناء القدرات وتنمية وتأجيج طاقة الخيال هي الفترة التي تقضيها الأجيال محشورة في الغرف الدراسية المغلقة فتنغلق هذه القابليات وتفقد طواعيتها فتتصلب ويعتاد الدارسون على التحجر والإمعية العمياء..
لذلك يواصل المؤلفان القول: (إن الفرد المبدع الذي يعمل أو يعيش في بيئة تفتقر إلى الخيال وسعة الأُفق يواجه الكثير من المصاعب التي تضعها في طريقه تلك البيئة) وليس أشد إماتة للقابليات الإبداعية من الإحساس الطويل بالتبعية الصامتة التي تنتج عن الذوبان في التعليم الجمعي فتنغلق وتتحجر قابلياته، إن الخضوع الطويل للامتثال يقضي على إمكانات التفرد ويميت الخيال فالنتائج السلبية للتعلم اضطراراً هي نتائج مدمرة..
إن فكرة تعميم التعليم حين ظهر في أوربا لم تكن تستهدف تأهيل الدارسين للأعمال الإبداعية لأن هذا الهدف ليس ممكناً تحقيقه فهو من الخصائص الفردية النادرة وإنما كان الهدف من تعميم التعليم هو تأهيل كوادر للأعمال التنفيذية.
إن نتائج التعليم الجمعي في كل العالم تؤكد هذه الحقيقة وقد كان الفيلسوف العظيم كانط يؤكد بوضوح بأن البحث العلمي يقوم على الجهد أما الإبداع فلا يمكن التخطيط له فهو يظهر على شكل إشراقات فردية نادرة وقد تظهر من حيث لا يتوقعها أحد..
إن من يقرأ حياة المبدعين في كل المجالات يلاحظ نفورهم من التفكير الجمعي ومن التلقين التعليمي القسري لأنه يتعارض مع طبيعة الإنسان التلقائية كما أنه يربي على الامتثال ويدمِّر الخيال ويتجاهل الفروق الفردية ويعوق الانطلاق الحر ويغتال النزوع الفردي الجامح الذي هو طريق التفرد والإبداع والإنجاز وهو شرط القدرة على المبادرة والمغامرة والاكتشاف، فالذي يقرأ تاريخ الإبداع يجد هذا النفور من التفكير المدرسي عند فرنسيس بيكون وديكارت وجاليلو ونيوتن ولوك وهيوم وآدم سميث وآينشتاين ولسنج وجوته وشيلر وبراتراند راسل ونقولا برديائيف وعند كل المبدعين وأقطاب الفكر والعلم والفن والإدارة وجميع الأفراد الذين كانوا رواداً للتقدم والتغيير..
ولعدم إدراك أن الإنسان كائن تلقائي فإن بعض الباحثين قد يلتبس عليهم مصدر القدرة الإبداعية وتحتجب عنهم أسباب تحجر القابليات فلا يدركون بأن الاندفاع التلقائي للتعلم والعمل والأداء هو المصدر المتجدد لكل الأعمال الإبداعية وأن إغفال طبيعة الإنسان التلقائية هو السبب الأساسي لهذا الالتباس وقد عبَّر مؤلفا كتاب (بناء القدرات الدماغية) عن هذا الالتباس بقولهما: (وقد ظل هناك سؤال يحيِّر العلماء طوال القرون الماضية وهو: هل الإبداع والاختلاف عن الآخرين يسبب المشاكل الانفعالية للمبدع أم أن تلك المشاكل هي التي تدفعه نحو الإبداع؟) أما الإجابة الصحيحة فتأتي من شاعر ألمانيا الأكبر الفيلسوف جوته الذي يؤكد مراراً في سيرة حياته بأن العفوية هي مفتاح الطاقات الإنسانية وبأن حب المعرفة والانفعال من أجلها شرط لتحصيلها فهو يجعل مقدار ما يحققه الإنسان من المعرفة عمقًا واتساعًا مرتبطاً بمقدار الحب والانفعال وفي ذلك يقول جوته: (لا يأخذ المرء في معرفة شيء إلا إذا كان يحبه والمعرفة ستكون من الإحاطة والعمق بقدر ما يكون الحب بل والانفعال نفسه أعظم قوة وأحفل حياة) وإذا كان الحب والانفعال شرطًا لتحصيل المعرفة فإنه أشد لزومًا للإبداع فقابليات الإنسان وطاقاته لابد أن تفور وتتدفق تلقائياً أما التعلم فلابد أن يكون استجابة لحاجات ذاتية فتنساب المؤثرات إلى القابليات تلقائياً لقد ضاعت الأعمار وتبددت الطاقات بسبب تجاهل الطبيعة التلقائية للإنسان..
إن نفور المبدعين من القسْر التعليمي المفضي إلى التنميط الذهني والعاطفي هو ظاهرة بازغة شديدة الوضوح وهي كافية لتأكيد الضرر الذي يخلقه التنميط للفرد والمجتمع والإنسانية لكن ليس من طبيعة الناس أن يشكُّوا فيما أجمعوا عليه ولا أن يعيدوا النظر في ما اعتادوه بل من طبيعتهم أنهم يواصلون السير أو الاندفاع مع ذات المسار المطروق وقد يمتد اندفاعهم قروناً مع ذات الاتجاه الخاطئ مهما كان حجم الخلل ومهما جاءت ضآلة النتائج حتى يصطدموا بعائق مانع يحول دون مواصلة السير فيضطرهم هذا المانع إلى مراجعة الأوضاع والتحقق من المسار الذي أفضى بهم إلى نهاية مسدودة ولكن بعد ضياع الأعمار والطاقات والأوقات وفوات فرص عظيمة على أجيال متتابعة من كل الأمم..
إن نتائج التعليم النظامي الاضطراري في كل العالم تؤكد أن التعليم لم يحقق ماكان منتظراً منه رغم طول المدة التي يقضيها الدارسون في معاناة التعلُّم الاضطراري ولكنه يوهم إيهاماً صاخباً ومجلجلاً بأنه قد حقَّق أهدافه فليس من طبيعة التعليم النظامي أنْ يتعرض لعائق حاسم يوقفه ويفرض تغيير المسار وإنما هو بضجيجه وبالكم العددي الهائل الذي يتمخَّض عنه يوهم بتحقيق ما يراد منه: فالدارسون ينتظمون فيه والامتحانات تجري والدارسون يتخرجون وينالون الشهادات وينتشرون في مواقع العمل بغض النظر عن ضعف تأهيلهم ويتوهم الجميع بأن كل شيء على ما يرام رغم أن الحصائل ضئيلة غاية الضآلة لأن الدارسين لم يذهبوا إلى المدارس والجامعات بدافع ذاتي تلقائي وإنما اضطروا للذهاب اضطراراً وهو قَسْرٌ يتعارض مع الطبيعة البشرية التلقائية، فمثلما أنك لا تستطيع أن تُرغم نفسك على أن تحب ما تكره فكذلك لن تتقبَّل ذاتُك تعليماً لم تندفع إليه بنفسك تلقائيًّا، فالنفس الإنسانية تعاف ما تُلزَم به فلا تسيغه ولا تهضمه فيبقى مُلْصَقاً بالذاكرة إلصاقاً قسرياً فينسلخ بعد الفراغ من المهمة الموقتة المرادة منه فلا يخالط النفس ولا يصير عتاداً تلقائيًّا دائماً للذات..
إن الرواد والمبدعين يتحركون في رياداتهم وإبداعاتهم في كل العصور ضد الإمعية السائدة؛ لذلك لا يصغي لهم أحد إلا بعد فوات الأوان وكما يقول الدكتور سامي أدهم في كتابه (بحثٌ في انطولوجية الخير والشر والجمال): (كان الفكر الحر المبدع والمنطلق هو الذي يطوِّر المجتمع ويؤسِّس الدول وليس الفكر الأكاديمي الخامل.. فكر الجامعات المتقوقع في الفصول والمدرجات.. الفكر المنطلق الحر هو فكر الأقلية المتميزة اللامنتمية يؤسِّس لحضارة جديدة فهم الذين يبنون المجتمعات الجديدة لأنهم ليسوا منتمين بالمعنى الواسع وهم الذين يهدمون القديم ويؤسِّسون الجديد) إن تقدم العلوم والفنون والتقنيات والنظم والقيم والاهتمامات والعادات والأوضاع لا يمكن أن يتحقق إلا بالأفكار الفردية الريادية الخارقة والاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية، لكن التاريخ يؤكد بوضوح شديد أن كل الرواد قد عانوا من الرفض العنيف والنبذ المهين في حياتهم وأن رياداتهم لا تجد القبول إلا بعد مماتهم وربما امتد الرفض عقوداً بل ربما امتد قروناً متواصلة فالأصل في التفكير البشري هو رفض المغاير لذلك فإنه ليس غريباً أن يكون الرائد مشمئزاً مما هو سائد من أفكار وتصورات وأساليب واهتمامات بما في ذلك اتجاهات التعليم..
الفيلسوف العظيم الذي أرخ لحركة العقل خلال كل العصور وعند كل الأمم
ول ديورانت يتحدث في كتابه الضخم (قصة الحضارة) عن نفور المبدعين من القسر التعليمي فيقول: (كان فولتير متوقد العقل لافتًا للأنظار منذ طفولته ولكنه كان يكره الدراسة التقليدية.. ويقول فولتير عن نفسه بأنه لم يتعلَّم في المدرسة سوى الحماقات أما تميُّزه فهو تميُّزٌ فردي مضادٌّ للتعليم القسري فقد كَتَبَ تمثيلية وهو في سن الثانية عشرة.. وكان معلموه يتوقعون أن يكون له شأن ويسمونه (المفكر الصغير) وبسبب إحساسه المبكر بذاته فإنه لم يرغب في الالتحاق بالجامعة لكن أباه أصرَّ بأن يدرس القانون فالتحق بالجامعة كارهًا ليعرف كما يقول: (مهنة المحاماة) لكنه كان يتجرع ذلك اضطرارًا فلم يُعْره اهتمامًا ثم انقطع من دون أن يكمل فقد كره كما يقول: (كثرة الأشياء عديمة الجدوى التي أرادوا أن يشحنوا بها ذهني)، فانشغل عنها بما يميل إليه تلقائيًّا فصار باهتمامه التلقائي القوي المستغرق ذلك المفكر العظيم الذي أسهم إسهامًا كبيرًا في زلزلة الجمود الأوربي وإنارة العقول وتغيير التصورات وتبديل الأوضاع..
ويتكرر الموقف نفسه لدى مفكرين آخرين فهذا الفيلسوف الشهير آدم سميث يذكر أنه (لم يتعلم من جامعة أوكسفورد إلا القليل) فهو لا يشعر أنه مدين لها بالكثير فهو ككل الرواد والمبدعين قد صنع نفسه بنفسه بل صنع مجده بالتخلي عن الإمعية التعليمية والانطلاق في الآفاق الإبداعية التي هي نتاج الجرأة الفردية لاقتحام المجهول ونقْد الأخطاء السائدة وبهذا التفرد الريادي أسس علم الاقتصاد..
أما المفكر المؤرخ الشهير ادوارد جيبون فلم يطق مواصلة الدراسة الجامعية فتركها نادمًا على الوقت الذي أضاعه فيها.. واصفًا الأساتذة بأنهم جَهَلَة..
وحين نقرأ سيرة الشاعر الفيلسوف الألماني الكبير فريدريك شيلر نجد أنه يصف (طريقة التعليم بأنها لا قلب لها ولا روح) إنها تسير في اتجاه مضاد لطبيعة الإنسان التلقائية لقد أجبروه بأن يتعلَّم الطب بينما كان هواه مع الفكر والشعر والأدب فظل يدْرس الطب كُرْها واضطرارًا بينما يلتهم الفلسفة والأدب رغبةً واندفاعًا.. لذلك لم يكن شيلر طالبًا بارزًا في الدراسة الاضطرارية والتحصيل الإلزامي بينما خلَّده التاريخ وصار مفخرة إبداعية للأمة الألمانية فيما كان يهواه ويندفع إليه تلقائيًّا أما رفاقه في الجامعة فقد قنعوا بالتحصيل التعليمي الرتيب من أجل التأهيل المهني فانغمسوا بعد التخرج في أعمالهم المهنية ثم طواهم الزمن من دون أن يتركوا أثراً إبداعياً يذكرهم به التاريخ كغيرهم من ملايين الناس الذين مروا على هذه الأرض مرور العابرين فالتفوق في التعليم الجمعي هو في الغالب دلالة الامتثال الأعمى وغياب حساسية التفرد..
أما المبدع شيلر فقد اضطر لمواصلة الدراسة حتى تخرج حاملاً شهادة الطب لكنه وصَفَ موقفه في فترة الدراسة بأنه: (ظل ثمانية أعوام يصارع القيد) وبالمقابل يقول: (حُبُّ الشِّعر كان حُبًّا ناريًّا كالحب الأول كلما أوشك أن يخبو تأجج من جديد ) إن هذه النتيجة تتفق تمامًا مع طبيعة الإنسان التلقائية، فليس هذا النفور التلقائي محصورًا بفئة من دون أخرى بل الاختلاف في درجة النفور، فالمبدعون أشد إحساسًا بالقيد وأقوى رغبة في التحرر منه والإفلات من قبضته..
أما الفيلسوف الشهير برتراند راسل فالمعروف أنه من أشد المشاهير نقدًا للتعليم بنظامه القسري الذي يلغي فردية الإنسان ويطمس قابلياته الذاتية ويقضي على إحساسه بالاستقلال فهو ذاته لم يمر بمراحل التعليم العام وإنما تلقى في المنزل تعليمًا خاصًّا وحين التحق بالجامعة كانت إنجازاته في الرياضيات أرفع من أن يحتاج إلى أن يخضع للمعايير الجامعية وهو يعزو تميزه إلى سلامته من التنميط التعليمي فيقول في سيرته الذاتية:(أشعر بالسعادة إذْ أنني لم أذهب إلى المدرسة من قبل وإلا افتقرت إلى الشجاعة والمقدرة على التفكير المبدع المستقل) إن تفكير الإنسان وسلوكه وكل فاعلياته ما هي إلا نتاج التبرمج والتعود فالقدرة في أي مجال لا تأتي تذَكُّرًا وإنما لابد أن تتدفق أو تنساب تلقائياً..
إن الطالب في التعليم النظامي لا يقوم بمهمة معرفية يتجه إليها بنفسه عن إحساس بالحاجة إليها وإنما هو يؤدي واجبًا مدرسيًّا أي أنه ملزم ومكره ومضطر للصبر على معاناة تجرُّع مواد ومعلومات لم يتجه إليها تلقائياً وإنما اتجه إليها مضطراً فيستخدمها موقتاً للامتحانات ولكنها تنمحي بالنسيان ويستمر الإحساس بها كمرحلة معاناة وغياب الشعور بالذات. وكما يقول خالد القلعة في الجزء الثاني من كتابه (السيرة المفتوحة): (لغياب المعنى يُفَضِّل أغلب الطلاب اللعب بدلاً من الدراسة لأنهم لا يجدون معنى لما يتعلمون). ويؤكد الناقد الفرنسي كلود رؤى في كتابه (دفاعًا عن الأدب) بأن التعلُّم مصدره الحب وبأن: (القراءة يجب أن تكون عن شهيَّة) لكن أكثر المنتظمين بالتعليم الجمعي لا يقرؤون بشهية بل يقرؤون مضطرين فيتجرعون المواد والمعلومات كما يتجرعون الدواء المر لأنها لا تأتي استجابة لاهتماماتهم التلقائية وإنما هي مفروضة عليهم وقد تكون متعارضة كلياً مع ما يبحثون عنه..
لذلك يرى الفيلسوف الألماني نيتشه بأن نظام التعليم في الغرب هو أسوأ عائق لخلق حضارة نضرة وبأن العالم الغربي سوف ينشغل بمعالجة المعضلات التي أنتجها التعليم الجمعي.. فإذا كان التعليم في الغرب المزدهر بهذا السوء فماذا يمكن أن يقال عن التعليم في المجتمعات المتخلفة بثقافاتها المغلقة..؟!
المصدر: صحيفة الرياض