إعلامي وكاتب اقتصادي
الدقائق الأولى بعد خبر وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وإعلان مبايعة شقيقه الأمير سلمان بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد، وبقية طاقم سدة الحكم في المرحلة المستقبلية، كانت كافية لإيصال رسائل إلى العالم أجمع، أن البيت السعودي -كالعادة- متماسك ومتوحد؛ ابتداءً من الأسرة المالكة إلى الشعب، كشفت كل الضبابية التي كان يرسمها المرجفون، ويحاولون البحث عن ثقب إبرة، فنزل الخبر عليهم كالصاعقة.
المتربصون بزعزعة أمن السعودية، هذه المرة كانت توقعاتهم عالية، فالدول التي شهدت بلدانها ربيعاً عربياً مزعوماً بالوهم، والدول التي لم تستقر لا أمنياً ولا اقتصادياً مزقتها الطائفية والمذهبية، وها هي الآن تحصد الدمار والقتل والتشرد لشعوبها، وهجرت الأموال وخلقت البطالة؛ فانتشرت الجريمة بشكل مخيف، وحاولت دولاً عدة التي يهمها أن لا ترى أمن هذه البلاد واستقراره، أن تبث روح الإحباط، إلا أنها فشلت.
استطاعت السعودية أن تتجاوز أزمة «الربيع العربي» وتبعاته منذ أعوام، كما أنها تعدت مرحلة الخوف من الإرهاب، وجلست له بالمرصاد، حتى قضت عليه على أرض الواقع، ولم يتبقَّ إلا فلول تلفظ أنفاسها الأخيرة مع تكاتف الجبهة الداخلية، واستطاع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز أن يبعد آثار هذه الأزمة المفتعلة؛ بضخ المزيد من الإصلاحات في الداخل تارة، وتارة أخرى بمساعيه وحنكته في معالجة القضايا التي تسهم في استقرار الدول المتأزمة.
في الشأن المحلي، كانت أكبر إنجازاته التي ستتذكرها الأجيال القادمة، هي فتح باب الابتعاث إلى الخارج في مجالات وتخصصات متنوعة، ويفوق الإنفاق السنوي على برنامج الابتعاث أكثر من 20 بليون ريال، أما الشيء الآخر ولا يقل أهمية عن الابتعاث، فهو فتح باب العمل للمرأة في محال بيع المستلزمات النسائية، وتهيئة كل سبل الكسب الحلال، مع توفير بيئة آمنة لها، وهذه الخطوة فتحت الباب لعمل نحو 300 ألف سيدة، وتأمين حياة كريمة لهن.
وبالنسبة إلى القرارات الشجاعة التي تضاف إلى سجل إنجازاته، وهو السماح بدخول المرأة إلى مجلس الشورى لتمثل 20 في المئة من إجمالي أعضائه الـ150 عضواً مرشحاً، وتبعه بقرار دخول المرأة في انتخابات المجلس البلدي، ويبقى الموضوع الأهم بالنسبة إلى السعوديين -وهم الغالبية العظمى- من ذوي الدخل المحدود والمتوسط، اعتماده 250 بليون ريال لإنشاء 500 ألف وحدة سكنية، بعد أن بقي مشروع الإسكان معلقاً لعقود؛ بسبب شح الأراضي وتعثر المقاولين وسوء التخطيط.
لا أحد يعرف العلاقة بين الحاكم والشعب إلا السعوديون والمقيمون فيها، ومن يحبها من الخارج، فالملك عبدالله حينما تنظر إليه من الداخل تجده أنه كان أقرب إلى هموم الشعب وتطلعاته، ورغبته في أن يرى مواطنيه في أحسن حال. كان جريئاً في انتقاده وشجاعاً في قراراته، ولم يتعود السعوديون رد الفعل التي كانت تصدر منه إذا علم الملك ببعض القصور، انزعج من الأضرار التي لحقت بمدينة جدة في 2009 جراء الأمطار والسيول، ومنها كان قراره الذي سيذكره السعوديون، إنشاء هيئة مكافحة الفساد، وضرب بيد الحق والعدالة حينما أمر بسحب مساحات كبيرة من الأراضي التي استولى عليها المتنفذون، وهو الموضوع الذي بقي محرجاً تداوله لعقود، بلغت به الجرأة والشجاعة أنه كان ينتقد وزراءه في جلسة مجلس الوزراء بعد إعلان الموازنة السنوية، ومخاطبته لهم «اسمع عن مشاريع بس ما أشوفها»، وحديثه إلى بعض أعضاء هيئة كبار العلماء، حينما وجه إليهم في مجلس انتقاد شديد ووصفهم بـ«الكسالى».
الكثير من تصرفات الملك الراحل العفوية، والتي تعبر بصدق كانت تنال الإعجاب الشديد من مواطنيه، مثل تلك العبارة التي قالها حينما افتتح ملعب الجوهرة في جدة وخاطب جماهيره الحاضرة بـ«الشعب الشقيق»، استطاع الملك الراحل أن يعبُر بالبلاد في أشد أزمتها التي كانت تعيشه معظم الدول، وكان تحدياً كبيراً، عبَّر بها إلى بر الأمان، كان آذانهم التي يسمع بها، وقلبهم الذي يشعر بحاجاتهم، وهذا ما جعله يتربع على قلوب شعبه ومحبيه.
أما خارجياً، فقد لعب الفقيد الراحل دوراً مهما كحنكة سياسية، وأيضاً التعامل مع الأزمات، ربما أبرزها في الأشهر الأخيرة، إذ أسهم بقوة في توحيد الصف الخليجي وأعاد عقدها قبل أن ينفرط، وآخر جهوده المصالحة التي تمت بين مصر وقطر وإرساله مبعوثه الخاص رئيس الديوان الملكي خالد التويجري والذي توج بعودة العلاقات بين البلدين.
البيت السعودي متوحد ومتماسك، وهذا الأمر يقلق الكثيرين الذين لا يحبون أن يروا نعمة الأمن والاستقرار لهذه البلد وأهله، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، يطلق عليه الكثير ممن يعرفونه عن قرب أنه حكيم العائلة المالكة، ومهندس محنك لمدينة الرياض وإداري مميز من الطراز الأول، وأكسبته خبراته الطويلة ومرافقته لإخوته الملوك السابقين -رحمهم الله-، وجعلت منه قيادياً من الدرجة الأولى.
عرف عن الملك سلمان أنه يبدأ نشاطه مبكراً، ويحرص على مواعيده، ويحب قراءة الصحف، ويتابع المقالات التي تنشر -وأحياناً- كثيرة يتصل ليعلق أو يبدي ملاحظته لكاتب، وهو قريب من هموم المواطن ويتلمس حاجاتهم.
أما فريق الصقور الذي أعلنه الملك الجديد، فهي رسالة واضحة إلى الجميع، أنهم فريق عمل واحد، وعلى هذا الأساس سيستكمل بقية الأسماء، مهمته الأمن والأمان والاستقرار وتحقيق تطلعات المواطنين.
ولي العهد الأمير مقرن بن عبدالعزيز خبير استخباراتي وديبلوماسي محنك وإداري على درجة عالية.
أما الحدث الأهم والذي أرسل إشارة إلى كل العالم، وهو اختيار رجل الأمن الأول بعد وفاة والده الأمير الراحل نايف بن عبدالعزيز، إنه الأمير محمد بن نايف، وهو ما يعني أن السعودية تتأهب لدخول جيل ثالث من الأسرة المالكة في سلم القيادة، وهي مرحلة تأهيل وتدريب.
المجتمع السعودي حزن على رحيل الملك عبدالله لما تركه من أثر طيب في نفوسهم، ولم يكن هذا المصاب الجلل يصاحبه خوف أو قلق، فالمجتمع السعودي يختلف على كل شيء وينتقد سوء خدمات المؤسسات الحكومية وأداء مسؤوليها، وينزعج من الفساد وبطء الإنجاز في المشاريع التنموية، إلا أنه لن يرضى أن يسيء أحد أو يتعرض بحكامها وأسرتها، وكل شبر من أرجاء هذا الوطن وأهله الذين يتوزعون في أنحائه هم عضو من هذا الجسد.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jamal-Bnoon/7024002