كاتب سعودي
في الخامس من أيلول (سبتمبر) الجاري، نشرت «بي بي سي» خبراً مفاده بأن المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي، أعطى الضوء الأخضر للقادة العسكريين الإيرانيين للتنسيق مع الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق، كان هذا أثناء القتال في منطقة أمرلي العراقية. لاحقاً، نفى المتحدث باسم الخارجية الأميركية أي نية أميركية لتنسيق عملياتها ضد «داعش» مع الجانب الإيراني. ثم ظهرت رسائل متناقضة من المعسكر الإيراني، تارة تشجب الحملة الأميركية ضد «الإرهاب» وانتهاك سيادة سورية والعراق، وتارة أخرى تعرض خدماتها على التحالف الدولي ضد الإرهاب، وتعلن إمكان التنسيق مع الولايات المتحدة.
في الـ13 من سبتمبر شجبت طهران على لسان الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي شامخاني انتهاك الولايات المتحدة لسيادة العراق وسورية باسم مكافحة «الإرهاب». وأشار في تصريح نشرته وكالة الأنباء الإيرانية إلى أن التحالف الدولي الذي تقيمه الولايات المتحدة ضد «داعش» مشبوه.
لاحقاً، يعلن المرشد الأعلى الإيراني في الـ15 من سبتمبر رفضه التعاون مع الولايات المتحدة. ثم في الـ24 من الجاري يعود الرئيس الإيراني روحاني ليعلن استعداد بلاده للتعاون مع الولايات المتحدة ضد «داعش» بعد التوصل إلى اتفاق نووي. لكن قبل أيام من بدء الضربات الجوية على سورية، أعلن وزير الخارجية الأميركية جون كيري أن لإيران دور في مكافحة الإرهاب، وهناك تنسيق معها.
خلال هذه الفترة، في بدايات سبتمبر، كانت تدور على الأرض معارك فك الحصار عن منطقة أمرلي العراقية وتحرير سد الموصل من تنظيم الدولة. أميركا كانت توجه ضربات جوية على مواقع «داعش» بينما تقاتل ميلشيات عراقية بالتعاون مع البشمركة على الأرض، وسط أنباء موسعة عن تنسيق مع إيران. بل نُشرت صور لقاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وهو يشرف على عمليات ميدانية في الأراضي العراقية. وهذا تنسيق بحكم الأمر الواقع بين إيران والولايات المتحدة.
هذه السرد لجزئية واحدة، موقف إيران من الحرب على «الإرهاب» يكشف حجم تعقيد علاقة إيران بالولايات المتحدة من جهة، وحجم انتهاك إيران لكل المبادئ التي تعلنها، من رفضها انتهاك سيادة العراق وسورية «بينما هي تنتهك هذه السيادة» إلى عرضها علناً المشاركة مع «الشيطان الأكبر» في حرب «الإرهاب» في مقابل تسوية الملف النووي الإيراني. لا يأتي هذا منفصلا ًعن شعارات رفض أميركا وكرهها، بل يأتي بالتوازي مع هذه الشعارات. ما يحدث على الأرض شيء، وما يقوله المرشد الأعلى شيء، وما يعرضه روحاني شيء آخر مختلف. لنجد أن أسطورة «محور الممانعة» تتهاوى أخيراً، ليصبح في مهب الريح. فكل شيء قابل للتفاوض، حتى انتهاك سيادة العراق وسورية (رأس حربة الممانعة)، وحتى القتال جنباً إلى جنب مع «الشيطان الأكبر» أو تحت ظلال طائراته.
على الجانب الآخر، في المعسكر السوري، يبدو التناقض في أقصى تجلياته، بالحديث عن ملف مواجهة «الإرهاب». فسردية «الإرهاب» والمؤامرة الكونية ضد سورية الأسد كانت حجر الأساس في رفض أي استجابة للثورة السورية منذ بداياتها. حين كانت النفوس طيبة، والمتظاهرون مواطنين لهم حقوق مشروعة -في نظر النظام السوري- في مقابل قلة «مندسة» كانت تعكِّر صفو أجواء المجتمع.
هذه القلة المندسة تحولت مع الوقت لتشمل الكثير من السوريين في عين بشار الأسد. بعد تعنُّت النظام ورفضه أي إصلاحات، بدعوى أن المظاهرات مبرمجة من أنظمة إقليمية ودولية لا تريد الخير لسورية. استمر في قمعها بعنف. وهنا أقول «استمر» لأن القمع في سورية أزلي من قبل مظاهرات درعا حتى.
الكل يعرف بقية القصة، والانتقال من التظاهر السلمي إلى انشقاقات الجيش، حتى لحظة دخول الجهاديين على الخط بعد ما يزيد على العام من بدء الثورة.
بعد ثلاثة أعوام من مواجهة الرئيس السوري المؤامرة الكونية ضد سورية، يستقبل بصدر رحب الضربات الجوية و«انتهاك» السيادة السورية التي كان يتغنى بمنعتها عقوداً، بل يقبل بإسقاط إسرائيل لطائرة عسكرية سورية، كما قبل مراراً طلعات الطيران الإسرائيلي على دمشق واستهدافها مناطق بالقرب منها. النظام السوري يثبت يوماً بعد يوم صدق شعار الشبيحة المتداول في بدايات الثورة السورية «الأسد أو نحرق البلد». هو لم يقبل فقط بإحراق البلد، بل نكّل بنفسه حرفياً، بارتكاب كل المحرمات التي تدمر أسطورة محور «الممانعة» الإقليمي، والتي بُنيت على مر عقود.
فبشار الأسد قَبِلَ بتفكيك سورية، والانتهاكات الإسرائيلية لسيادته، ثم التحالف الدولي الذي يقاتل على أراضيه من دون تنسيق معه. ثم يعلن بكل صفاقة أنه في تحالف مع العالم ضد «الإرهاب» على رغم أن أحداً لم يخطره حتى بموعد الضربات العسكرية على أراضيه. فيعلن النظام السوري تارة أنه علم عن الضربات الجوية عن طريق إيران، وأخرى أنه علم عن طريق العراق، بعد نفي مسؤوليين أميركيين أي اتصال مع الجانب السوري. بل تصل الصفاقة بالنظام السوري إلى أن تنشر الصحف السورية الحكومية بعد الضربة الدولية عادتها واحتفاءها بأن «القيادة» والتحالف الدولي يصطفان سوية ضد «الإرهاب».
ليس الغريب تناقض «محور الممانعة» الإقليمي. بل الغريب أن هناك من لا يزال يؤمن بهذه الأسطورة، ويروج لها، حتى بعد عجز «الممانعة» عن التمسك بورقة التوت التي كانت تستر عورتها، بعد إظهار غبطتها بالحرب الأميركية على «الإرهاب».
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Badar-Al-Rashad/4788028