كاتب سعودي
أصدر صندوق النقد الدولي أخيراً تقريره السنوي المعتاد عن الاقتصاد السعودي، مشاورات المادة الرابعة لعام 2013م، وهو التقرير الذي يُظهر تقييم وتوصيات خبراء الصندوق تجاه مختلف التطورات والسياسات لدى الدول الأعضاء فيه، ومن ضمنها بطبيعة الحال المملكة العربية السعودية.
تضمّن التقرير أهم القضايا والملفات الاقتصادية في البلاد، إضافةً إلى أبرز الآفاق والمخاطر التي تلوح حول أداء الاقتصاد وعلاقاته الخارجية، ورؤية الصندوق تجاه مختلف السياسات الاقتصادية الراهنة (التقرير كاملاً، منشور على الموقع الإلكتروني للصندوق:www.imf.org/external/arabic/pubs/ft/scr/2013/cr13229a.pdf).
هناك الكثير من القضايا الاقتصادية تطرّق إليها التقرير، تتطلّب نقاشاً عميقاً وطويلاً لأهميتها البالغة جداً، وهو ما لا تسمح به مساحة المقال هنا، ولعله يُتاح مستقبلاً العودة إليها حسب كل قضية. الأهم في مقال اليوم ما تضمّنه التقرير في توصيته رقم (38) صفحة (25)، التي نصّتْ على التالي: أوصى خبراء الصندوق باتخاذ عددٍ من التدابير على مستوى السياسات، لضمان مواصلة تخفيض عجز الموازنة في 2018م وما بعدها، تتضمن هذه التدابير: (1) مواصلة وضع قيود محكمة على الرواتب والأجور، و(2) تطوير مصادر الإيرادات غير النفطية (ضريبة القيمة المضافة والضرائب غير المباشرة) بما يتماشى مع زيادة حجم الاقتصاد غير النفطي، و(3) رفْع أسعار الطاقة المحليّة تدريجياً مع مرور الوقت، و(4) ضمان جودة الإنفاق وكفاءته، بما في ذلك عن طريق الاهتمام الوثيق بالنتائج التي يتم تحقيقها في قطاعات الصحة، والتعليم، والبنية التحتية، لضمان تحقيق أهداف هذا الإنفاق. وقد توقعتْ السلطات انخفاض عجز المالية العامّة غير النفطي مع مرور الوقت كلّما انخفضتْ الاستثمارات الكبيرة في قطاع البنية التحتية. وإلى جانب الإنفاق على التعليم، فإن هذه الاستثمارات من شأنها تعزيز آفاق النّمو في القطاع الخاص غير النفطي.
لعل القارئ الكريم يتذكّر ما تمّت الإشارة إليه في المقالات الأربع الأخيرة حول: (1) إعادة بناء وتصميم السياسات الاقتصادية، منها إعادة تقييم سعر الصرف الثابت للريال السعودي مع الدولار الأمريكي، وخفض الأخير أمام عملتنا المحلية بما لا يقل عن 25 في المائة. (2) السحب التدريجي للدعم الحكومي على موارد الطاقة، بالتزامن مع (3) رفع مستويات الرواتب الحاليّة بما لا يقل عن 121 في المائة، واتصالُ تلك الإجراءات بضرورة رفْع وتعزيز أحزمة الحماية الاقتصادية والاجتماعية لشرائح المجتمع من (متقاعدين، أرامل ومطلقات، عاطلين عن العمل، أُسرْ فقيرة .. إلخ) . وأنّ الهدف الرئيس من كل تلك الإجراءات التكاملية هو إيجاد حلول أكثر شمولية للاقتصاد الوطني، وذات أثرٍ بعيد أكثر من كونها آنية، أو أن تكون مجرّد حلول جزئية مبتورة! كأن تُزاد الأجور فقط، أو يُمنح العاملون رواتب مقطوعة لشهر أو شهرين، سرعان ما ستأتي ظروفٌ تالية أكثر صعوبة، ثم تعود الأمور إلى سيرتها الأولى، ولكن في ظروفٍ قد تكون أقسى من سابقتها.
إلى هنا؛ أتى خبراء صندوق النقد الدولي في توصيتهم المذكورة أعلاه بثلاث ”طوامٍ”! وكأنّ أولئك الخبراء لا يعلمون أنَّ القيمة الحقيقية للريال السعودي فقدتْ نحو 54.8 في المائة مقارنةً بقيمته الأسمية منذ 1999م، علماً أنّ هذه الحقيقة كانت واضحة وضوح الشمس في البيانات المقدّمة إلى الخبراء من جهاتنا الرسمية، بل إنَّ امتداحهم المعتاد والمتكرر سنوياً للسياسة النقدية في خصوص سعر الصرف الثابت للريال مع الدولار، يؤكد أنَّ أعين أولئك الخبراء ترى ما يُراد لها أن ترى من قبل البعض في أجهزتنا المحلية، وكذا الحال لما يجب أن يُغضَّ عنه البصر! فما هي تلك الطوام الثلاث؟!
الطامة الأولى: تقييد (تجميد) الرواتب والأجور! فيما الأسعار (التضخّم) التي يقف وراءها عجز السياسة النقدية (سعر الصرف الثابت)، وضعف الرقابة على الأسواق المحلية؛ لها توصياتها الفضفاضة كالمعتاد سنوياً.
الطامة الثانية: فرْض ضريبة القيمة المضافة، والضرائب غير المباشرة، وذلك بهدف تطوير مصادر الإيرادات غير النفطية! وكأن الرواتب والأجور في مستوياتٍ من الارتفاع، ستمتصُّ بموجبها هذه التوصية العمياء والصمّاء دون أي آثارٍ تدميرية! ولا يُلام خبراء الصندوق لقاء هذا العمى التام في الرؤية، وهم من سطّر الفقرة الأول أعلاه من توصياتهم بتجميد الأجور، ولا يُعلم أيّ أرقامٍ تسلّموها من جهاتنا الرسمية حول مستويات أجور العمالة الوطنية؟!
الطامة الثالثة: رفْع أسعار الطاقة المحليّة تدريجياً مع مرور الوقت! ووجه الاختلاف هنا عمّا تم اقتراحه من الكاتب في المقالات الأخيرة؛ أنَّ التوصية هنا تزامنتْ مع عكس مقترحات الكاتب وأكثر من ذلك! فإضافةً إلى تجميد الأجور وفرْض الضرائب، يُطالب خبراء الصندوق برفْع أسعار الطاقة المحلية! جديرٌ بالذكر أنْ تقرير الصندوق أشار في موقعٍ آخر منه إلى اقتصار الدعم على الشرائح الاجتماعية المتضررة من رفْع أسعار الطاقة، وهذه فقرة تقليدية كان متوقعاً إيرادها في سياق التقرير.
حسناً، لنتخيّل جميعاً أنَّ جهاتنا الرسمية تبنّتْ مثل التوصيات أو الطوام العظمى على الأوضاع الراهنة التي يعيشها اقتصادنا محلياً، سواءً على مستوى الأجور، أو على مستوى الأسعار المرتفعة، أو على مستوى معدلات البطالة القياسية، أو على مستوى غلاء المساكن، أو على مستوى المديونيات الراهنة على الأفراد. إلى ماذا ستؤول له الأوضاع محلياً؟ وما هي الآثار المُدمّرة المتوقعة لو تمّ تطبيقها؟ الأهم من كل تلك الأسئلة هو السؤال التالي: بما أنّ هذا التقرير قبل وأثناء كتابته تمّ مناقشته مع الأجهزة الحكومية المعنيّة (خاصّةً وزارة المالية كونها المعنيّ الأول بكل تلك التوصيات)، كيف تمكّن خبراء الصندوق من طرْح مثل هذه التوصيات دون أيّ تعليقٍ أو حتى إيضاحٍ من قبل وزارة المالية؟! وهو ما يختلف تماماً مع رأي خبراء الصندوق تجاه سياسة سعر الصرف الثابت مع الدولار الأمريكي وفق مستواه المحدد الآن، التي ثبتْ أنّها من أهم الأسباب التي أدّتْ إلى تآكل قيمة الريال، ورغم ذلك استمر ”حشو” المديح السنوي من الخبراء. إنّه سؤال يبحث عن إجابة!
إنَّ مجرّد قراءة ”الطوام” الثلاث أعلاه لخبراء الصندوق، واسقاطها على واقعنا الاقتصادي الراهن، كفيلٌ بإشعال جرس الإنذار من العواقب الوخيمة للحريق الشامل الذي ستخلّفه في مرابعنا، فالحذر كل الحذر إنْ أردنا السلامة والأمان!!
المصدر: الإقتصادية