كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
في السنوات الأخيرة، حصل تغير جذري في ديناميكية الرأي العام، فبينما كان الرأي العام بطيء التكون والتغيير، يتجذر عميقا ويشمل القضايا الكبرى فقط، مع إمكانية التحكم به وتشكيله من خلال المؤسسات الإعلامية؛ فإنه اليوم تحول ليصبح “لحظيا” في تكونه، يتغير على مدار اليوم، ويتناول كل التفاصيل، وهو خارج عن التحكم تماما من أي جهة.
مثل هذا التغير معناه بالضبط أننا نعيش في عالم مختلف، لم يعتده الإعلاميون والمثقفون والسياسيون من قبل، وبقدر ما تسهم الشبكات الاجتماعية في هذا التموج السريع والهائل، الذي يجعل المجتمع بأسره كالبحر في حركته، فإن الأمواج تترك على الشاطئ عندما تضربه بقايا ما تحمله في رحلتها، ولذا قد ينسى الجمهور القضية ولكن تبقى آثارها في أعماقهم، بشكل لا يمكن معه تجاهل النقاشات اليومية التي تحصل على الشبكات الاجتماعية، وعلى رأسها “تويتر”.
كثير من الناس سعيد بالقدرة على التغيير والضغط على المسؤولين والمؤسسات الحكومية والخاصة من خلال “تويتر”، فبعد أن كان التواصل مع المؤسسات يأخذ وقتا وإجراءات بيروقراطية معقدة، صار يمكن توصيل رسالتك خلال لحظات، ليقف معك الجمهور من خلال “هاشتاق” وينطلق في معركته ضد خصمك بلا هوادة.
ومن المؤكد أن كثيرا من الناس الذين يستخدمون “تويتر” بهذا الشكل ينطلقون من حبهم للوطن وإيمانهم بمستقبله ورغبتهم في أن يرونه الأفضل بين الأمم، ولكن هناك كثيرون في الحقيقة ينطلقون من منطلقات سلبية، تبدأ مع “جلد الذات” ولا تنـتهي مع الاستمتاع بقوة التأثير على الرأي العام وإحداث الضجة وكسب الأتباع، وذلك بعد أن كان هذا مستحيلا في السابق لشخص في إمكانياته وموقعه الاجتماعي.
جلد الذات كما هو معروف هو محاولة للهرب من المشكلات، فبدلا من العمل الإيجابي والبحث عن حلول وبذل الجهد مع الآخرين، فإنه يحاول تصوير الأمور بأسوأ شكل ممكن حتى يبرر عجزه وانسحابه من العمل الإيجابي، وهؤلاء عادة يحبون أوطانهم في أعماقهم ولكن هذه السلبية في التفكير والانبهار المبالغ به أحيانا بنماذج أخرى، يجعل ما يقوله غير واقعي وله ضرره أكثر من نفعه.
هناك سبب لانتشار جلد الذات على “تويتر”، وهذا السبب أن من يناقشون القضايا هم عادة بعيدون عن صناعة القرارات، ولا يملكون المعلومات، ولذا فهم يحتاجون لهذا الانسحاب، ولا يملكون من المعلومات ما يفهمون به طبيعة المشكلة وأبعادها، فيلجؤون للعبارات السلبية العامة والهجوم “الشامل” وتحميل المسؤولين اللوم، ولو راقبت الكثير منهم في أعمالهم، لوجدتهم أكثر تقصيرا وضعفا، لأن طبيعة من يمارس جلد الذات أن يكون هو أيضا سلبيا في حياته الشخصية.
انتشار هذه الظواهر السلبية وانتشار المعلومات الخاطئة والمبالغات في ردود الأفعال واستغلال العواطف في القصص الإنسانية يعني باختصار أن تتحول حياتنا إلى معارك كلامية، وأن ينتشر “الشك” في المجتمع، وأن تفقد الشبكات الاجتماعية قدرتها على تفعيل المجتمع إيجابيا.
نحن بلا شك نحتاج لتجمع عقلاني شبابي ذكي ينبثق من كل هذا الضباب، ليحاول إعادة العقل إلى الناس، وحتى تصبح هناك أعراف تنتشر بين الجميع، ويظهر من يخالفها على أنه شاذ ومرفوض، أعراف تؤمن بالتوازن في النقد، ودقة المعلومة، ورفض التعميم والمبالغة، وتجعل حب الوطن ومصلحته مقدما على الاستمتاع الذاتي بالهجوم على الأفراد والمؤسسات. إذا لم يوجد مثل هذا التعاضد العقلاني لحل المشكلة، فإنها ستتوسع، وستترك آثارها على الجميع.
أنا هنا بالمناسبة لا أبرئ المؤسسة الحكومية ولا المسؤول من التقصير في الإسهام بحل المشكلة. في كل أنحاء العالم، صار “الاتصال الحكومي” أمرا أساسيا لا بد منه في ظل العصر الرقمي، والأمر نفسه ينطبق على الشركات والمؤسسات اللاربحية والتعليمية، بينما في نفس الوقت نجد أن هذا ما زال ضعيفا في مؤسساتنا الحكومية والخاصة بشكل مثير للاستغراب. هذا بالرغم من أنه صدرت عن خادم الحرمين الشريفين توجيهات في مناسبات عديدة تدعو لتواصل حكومي مع الجمهور بما يبرز الإنجازات ويفسر للجمهور التفاصيل.
في الأسبوع القادم، سأتحدث بالتفصيل إن شاء الله عن الاتصال الحكومي والتحديات التي تواجهه وكيف يمكن تفعيله. حتى ذلك الحين، أتمنى أن نبدأ بالإسهام ولو قليلا عبر “تويتر” وفي مجالسنا بجهد يجعلنا إيجابيين أكثر، وعقلاء أكثر، ومحبين لوطننا أكثر.
المصدر: الوطن أون لاين