كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو
تختلف سوسيولوجيا التصوير، الفوتوغرافي والتلفزيوني، وفق ثقافة المجتمع الذي يتم التصوير فيه والفرد الممسك بالكاميرا.
من خلال ثقافة المجتمع نستخلص ما يمكن تسميته: (ثقافة الزوم)، أي العوامل الثقافية المؤثرة في اختيار البؤرة الاجتماعية التي تحظى باستهداف الكاميرا لها.
ففي حين تهتم المجتمعات المتطورة بتصوير الحدث المهم، تهتم مجتمعات أخرى بتصوير الشخصية المهمة الموجودة في الحدث، بغضّ النظر إن كان الحدث مهماً أو هامشياً. وهنا تكمن لعبة جذب الفلاشات إلى منصة الحفل، حيث يلجأ أصحاب المناسبة من أجل جذب انتباه الإعلام، إلى بذل مساع كبيرة للحصول على رعاية أو حضور شخصية «مهمة» إلى احتفالهم لتقوم الشخصية بجرّ الإعلاميين والمصورين إلى الاحتفال حتى لو كانت المناسبة هامشية لا تستحق التغطية. لا يغيب عن ذهني ما يمارسه الإعلام الغربي في سبيل صناعة النجم من مطاردة نجوم الفن مثلاً، فهذه حكاية أخرى ترتبط بالثقافة الرأسمالية لا الثقافة السلطوية، رغم الوعي بأن الرأسمالية تصنع سلطاتها وتُخضع المجتمع لها من أجل الكسب المستديم للمال من دون هوادة، لكن هذا نقاش آخر سبق التطرق له في مقالتي: (الأرقام .. الحروف الأبجدية للعصر الرأسمالي، صحيفة «الحياة» 15/ 10 / 2008).
قبل أيام، وقّعت منظمة اليونسكو مع شركة «باناسونيك» اتفاقية تعاون تطوعي للمساهمة في المحافظة على التراث العالمي. كانت القاعة مكتظة بكاميرات التصوير. المصورون الكوريون الفوتوغرافيون والتلفزيونيون وحاملو الميكروفونات يتزاحمون للبحث عن زاوية يصنعون من خلالها «الزوم» الملائم للحدث. حين رأيت هذا الاكتظاظ الإعلامي سألت وبعض الزملاء العرب المنظّمين: من هو ضيف الشرف؟! كان الرد مفاجئاً لنا حين قيل بأن لا مسؤول كبيراً من بين الحضور. ولا وزير الاتصالات الكوري؟ طيب على الأقل وكيل الوزارة أو مدير عام الاتصالات؟ لا أحد سوى مدير تنفيذي من «باناسونيك»، لا يعرف المصورون الكوريون الحاضرون اسمه أو صورته من قبل! جذبهم الحدث وأثارهم اسم «باناسونيك» اللامع وليس اسم معالي رئيس «باناسونيك» أو سعادة مدير عام العلاقات الخارجية في «باناسونيك».
سأسوق لكم مثالاً أوضح من سابقه. في نقل المباريات النهائية لكرة القدم ستجدون الفارق واضحاً بين عدد مرات ظهور راعي الحفل، الأوروبي مثلاً إزاء العربي، ففي حين تنشغل الكاميرا الأوروبية بأحداث المباراة تنشغل الكاميرا العربية بأحاديث ضيف الشرف مع جاره في المنصة. وأحياناً يضيع «الهدف» من المباراة لأن الكاميرا مشغولة بالتزويم على مكان آخر غير ساحة الملعب.
الإشكالية تكمن في المفهوم المتغاير بين المجتمعات في تحديد الهدف الارتكازي الذي يجب أن تلاحقه الكاميرا وتزوّم عليه، فبعض الكاميرات تأتي لتصوّر الحدث، وبعضها الآخر لم يأت لأجل الحدث بل لأجل من سيحضر الحدث أو الحفل.
هذا السلوك عادةً لا يكون نشازاً عن الثقافة التي نشأ فيها أو طارئاً عليها بل هو جزء من منظومة متكاملة في آلية التفكير والتقدير، فالمجتمعات التي تهتم بتصوير الحدث لا ضيف الشرف هي نفسها التي تناقش الأفكار بمعزل عن الأشخاص الذين قالوها، أما المجتمعات التي تعطي فلاشاتها لضيف المناسبة عوضاً عن المناسبة ذاتها، فهي نفسها أيضاً، التي إذا دخلت في نقاش انشغلت بالقائل أكثر من انشغالها بالمقولة.
هي الشخصنة إذاً، أي مَحْورة الاهتمام المجتمعي حول الأشخاص، ما يعني غياب القدرة على استيلاد الأفكار والأحداث بسبب إشباع النفس الوهمي بأن الشخص المهم هو في حد ذاته فكرة وهو الحدث، فلِمَ البحث عن أفكار وسط الأحداث؟! وبذا يقوم المجتمع، أو ثقافة المجتمع الموجهة، بتحويل الأفعال إلى أسماء، والأفكار إلى أقوال… قادرة على جذب الكاميرات وحامليها إلى منصة الحدث الهامشي.
بسبب «الزوم» الإعلامي المكرّس للأشخاص لا الأحداث تتحوّر مقولة «الرجال مواقف» إلى «المواقف رجال»!