كاتب سعودي
اغتيل «رجل الأفكار» محمد شطح، اغتيل في وضح النهار، وأمام مرأى «الناس والأبنية والممتلكات» والناس من عندي، أما الأبنية والممتلكات فمن عند «حزب الله»، وسأعود بعد أسطر لأرى كيف دخلت هاتان الكلمتان في بيان نعي!
مات الرجل وانتقل إلى ربه بأمانيه وأفكاره واعتداله، وبدأت إثر ذلك المسرحية اللبنانية المعروفة. اتهامات متبادلة وغناء محمّل بكذب مكشوف ورقص عارٍ في حرم مقبرة!
مات الرجل وتوالت البيانات السياسية والتقارير الصحافية، وانشغل المواطنون اللبنانيون بأطيافهم وتوجهاتهم بالحدث والمتسبب في الحدث، لكن، كالعادة، ستسجل القضية ضد مجهول، وستطوى أوراقها في ملف حديدي وتوضع في «درج المنسيات»، الذي دخلته من قبل أوراق قضايا جبران تويني وسمير قصير وبيير الجميل ووسام الحسن وغيرهم من الذين اختاروا مواجهة السلاح على الأرض بسلاح الكلمة والحكمة والحقيقة.
بيانات النعي باردة كالعادة ولا تضيف جديداً، بيان «حزب الله» فقط هو ما أثارني، إذ وردت فيه بعض المنعطفات التي لا بد من الوقوف عندها.
يقول البيان: «يعبر حزب الله عن إدانته الشديدة للجريمة النكراء التي استهدفت معالي الوزير محمد شطح، ما أدى إلى استشهاده مع عدد من المواطنين اللبنانيين وجرح العشرات، فضلاً عن الأضرار الجسيمة في الأبنية والممتلكات. إن حزب الله يرى أن هذه الجريمة البشعة تأتي في إطار سلسلة الجرائم والتفجيرات التي تهدف إلى تخريب البلد، وهي محاولة آثمة لاستهداف الاستقرار وضرب الوحدة الوطنية لا يستفيد منها إلا أعداء لبنان. ويدعو الحزب اللبنانيين إلى اعتماد العقلانية والحكمة في مواجهة الأخطار التي تحدق ببلدهم، كما يدعو الأجهزة الأمنية والقضائية إلى استنفار الجهود والطاقات لوضع اليد على الجريمة وكشف الفاعلين وتقديمهم للعدالة».
المنعطف الأول هو ورود «الأبنية والممتلكات» في بيان نعي وإدانة. الحزب بهذا البيان جزّأ الحدث إلى أربعة أجزاء: استشهاد شطح، واستشهاد عدد من المواطنين، وجرح العشرات، والإضرار بالأبنية والممتلكات، والتي من بينها سيارة «الهوندا» المسروقة التي استخدمت في التفجير.
القضية إذاً ليست دائماً شطح، فهناك من «الأشياء» ما يمكن لـ«الحزب» أن يتحدث عنها أيضاً، هذا أولاً، وثانياً مسألة «الأبنية والممتلكات» لم ترد على لسان أي من عرابي الحزب في بيانات الإدانة التي تسابقوا إليها عند تفجير السفارة الإيرانية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وكأن الخسائر المكانية تتضح معالمها فقط عند الخروج من الضاحية الجنوبية.
والمنعطف الثاني هو اعتبار الحزب هذا الاغتيال بمثابة محاولة آثمة، لاستهداف الاستقرار وضرب الوحدة الوطنية.
هنا يتحدث الحزب عن الوحدة الوطنية وكأنها موجودة فعلاً، وهذه مسألة أخرى معقدة وغير مفهومة، لا تختلف كثيراً عن مسألة «الأبنية والممتلكات» التي وردت في المنعطف الأول، فكيف يحق لميلشيا مسلحة اختارت دائماً أن تبقى مستقلة عن الواقع اللبناني أن تتحدث عن الوحدة الوطنية؟ كيف يحق لتنظيم يمتلك وزارة داخليته الخاصة ووزارة خارجيته الخاصة ووزارة دفاعه الخاصة، التي تذهب خارج الحدود أحياناً لتشارك في النزاعات الإقليمية، أن ينظّر ويدندن حول الوحدة الوطنية؟
ما أفهمه أنا من جملة «الوحدة الوطنية» هو دخول الأطراف اللبنانية كافة تحت الشرعية اللبنانية واصطفافها تحت رؤية واحدة ومستقبل واحد، وإن اختلفت الطرق الديموقراطية المؤدية لذلك، وهذا غير متحقق في حالة «حزب الله».
أما المنعطف الثالث فهو إدخال أعداء لبنان في مسألة الخصام اللبناني – اللبناني، وتحميلهم دائماً مسؤولية ما يحدث داخلياً. وبالمناسبة، فإن «حزب الله» ليس وحده من يذهب دائماً لهذا الجانب، هناك أيضاً بعض اللبنانيين الذين تمكن تسميتهم بالأقطاب غير السالبة وغير الموجبة، مثل رئيس الوزراء المكلف تمام سلام، ذهبوا لهذا الاتجاه وتحدثوا عن تعرض لبنان لمؤامرة!
«حزب الله» يعرف أنه سبب رئيس للأزمات المتلاحقة في لبنان بسبب وجوده غير الشرعي، وبالتالي فإنه دائماً أضعف من أن يهاجم خصومه على الأرض اللبنانية، وهذا ما يجعله يسعى دائماً إلى استيراد الخطر من الخارج وربط ذلك بمعاونة بعض الأطراف اللبنانية لأعداء لبنان في المنطقة.
والمنعطف الرابع في بيان الحزب يتمثل في دعوته للأجهزة الأمنية والقضائية إلى استنفار الجهود والطاقات لوضع اليد على الجريمة وكشف الفاعلين وتقديمهم للعدالة.
دعوة نظرية جميلة بلا شك، لكن اللبنانيين يعرفون كيف يعمل الحزب على الوقوف ضد الجهود الأمنية، وكيف يعرقل المساعي القضائية لكشف أية حقيقة تصب في مصلحة خصوم الحزب. كل اللبنانيين يعرفون وقوف الحزب ضد وضع كاميرات المراقبة الأمنية في بيروت، وكلهم يعرفون الالتفافات المكشوفة حول القضاء للتأثير في قضايا «درج المنسيات».
والمنعطف الخامس هو كلمة العدالة التي وردت في آخر البيان. هذه الكلمة تشبه تماماً كلمة «الاعتدال» التي وردت في بيان نظام بشار الأسد على لسان وزير إعلامه عمران الزعبي الذي قال: «إن هذه الاتهامات الجزافية والعشوائية (يقصد اتهامات فؤاد السنيورة لنظام دمشق بالضلوع في عملية الاغتيال) تأتي على خلفية أحقاد سياسية تعكس ارتباط أشخاص بأعداء الأمة والاعتدال». عدالة «حزب الله» جاءت على حساب جهادها، واعتدال نظام دمشق جاء على حساب ممانعته، وهذه مسألة تتعلق بالتحول والتحور لمواجهة صراع الحياة، هي مسألة ليست فيها إعادة نظر.
كل ما سبق يدخل في حسابات اللعب السياسي، أما ما يدخل في حسابات الردح السياسي فهو ما تناولته بعض الأقلام المتأرينة عن ضلوع السعودية في تفجير «ستاركو»، رغبة منها في الضغط على النخب السياسية اللبنانية للإسراع في تكوين حكومة جديدة تحل محل حكومة تصريف الأعمال الحالية، وبالتالي التخلص من وزير الخارجية عدنان منصور، المحسوب على «حزب الله» قبل «جنيف ٢»، الأمر الذي سيساعد في أن يتبنى لبنان موقفاً حازماً ضد الإرهاب الأسدي.
ما جعلني أصنف ذلك في جانب الردح السياسي، أن هذه الأقلام التي تبحث عن الوحدة الوطنية والعدالة وتحارب أعداء لبنان، ما زالت مصرة على اعتبار الحكومة اللبنانية مجلساً وزارياً يمثل كل طرف فيه مرجعه الأصلي، يعتبرون مجلس الوزراء جامعة لبنان العربية التي يحق لأعضائها التحدث فيها باسم زعمائهم ومصالح زعمائهم.