إعلامي وكاتب اقتصادي
احتفل أهالي مدينة جدة الساحلية قبل أسبوعين بانضمام المنطقة التاريخية إلى قائمة التراث العالمي، وبذلك يرتفع عدد المناطق التي انضمت إلى القائمة العالمية إلى ثلاث مناطق تراثية، وهي الدرعية ومدائن صالح وأخيراً جدة التاريخية. أن تحصل على اعتراف عالمي ومن منظمات عالمية، ليس بالأمر السهل. ملف جدة دخل إلى منظمة «يونيسكو» قبل أعوام، إلا أنه تم سحب الملف لاستكمال الإجراءات المطلوبة. وقدمت مرة أخرى بعد أن أضيف عليها جدة التاريخية بوابة مكة، فالانضمام إلى القائمة العالمية ليس سهلاً.. وليس أيضاً ترفاً. بل هو مشروع إنساني واجتماعي بالدرجة الأولى، ومشروع اقتصادي استثماري يخلق فرص عمل ومجالات متعددة من الحرف اليدوية والصناعات الخفيفة، كما أنه جزء مهم من التاريخ القديم الذي يرسخ الماضي بالحاضر للأجيال المقبلة.
بالطبع لم يكن الأمر سهلاً في الانضمام إلى التراث العالمي، فالمنظمات العالمية لها شروط ومطالبات وحاجات، وأيضاً يتطلب الالتزام بها، لكونها أصبحت جزءاً مهماً من التراث العالمي، فلا بد من الحفاظ عليها وتطوير مكوناتها، بحيث تكون مقصداً للزوار والسياح، وبما يحافظ على هذا الإرث التاريخي، ولا ننسى أن ننسب الفضل إلى صاحب الجهد الكبير واللافت رئيس الهيئة العامة للسياحة الأمير سلطان بن سلمان، فهو صاحب النقلة الكبيرة في مفهوم السياحة السعودية.
كيف حصلت جدة على هذا الاعتراف العالمي؟ اكتسبت أهمية واسعة على الصعيد الدولي بعد ظهور الإسلام، إذ تم اتخاذها في عام 26هـ مرفأ لاستقبال الحجاج وبوابة للسفر إلى البقاع المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنذ ذلك الحين وآلاف الأشخاص من جنسيات وثقافات متنوعة يمرون عبر جدة في كل عام، إذ استقر العديد من هؤلاء الحجاج والتجار في جدة واضعين حجر الأساس لمدينة عالمية متعددة الثقافات، ومسهمين في بناء تاريخها. ويقول الأمير سلطان بن سلمان في تعريفه لجدة إنها تمتلك أهمية عالمية لأنها البوابة التقليدية لمكة المكرمة، ويتميز منظر المدينة بالطراز المعماري الفريد الذي يعكس التبادل الاقتصادي والثقافي بين آسيا وحوض المتوسط وأفريقيا وجنوبي الجزيرة العربية على مدى قرون عدة.
الاحتفال البسيط الذي أقامته الجهات الحكومية في المنطقة التاريخية وأمام منزل نصيف شارك فيه كل الناس البسطاء والأثرياء، وحضره أمير مكة ومحافظها ورئيس الهيئة ووزير الثقافة والإعلام، وعدد كبير من الأدباء والمثقفين والتجار والأعيان، هذا الاحتفال يجب ألا يمر هكذا من دون أن نضع النقاط على الحروف. فهو ليس احتفالاً ونشر صور المنطقة التاريخية.
جدة التاريخية كلنا نعلم أنها بيوت تسكنها العمالة، وهي مستودعات، وأكبر سوق لتشغيل العمالة المقيمة، لا تجد سوى أسماء بيوت أهلها من التجار الأوائل والعائلات المعروفة، أما المحال التجارية فيسيطر عليها وافدون وتستر تجاري. صحيح ربما نحتفل بجدة التاريخية، إنما الزوار والسياح الذين سيأتون لزيارتها سيشاهدون عمالة وافدة، ولن يروا سوى بيوت قديمة، بينما أهلها «وأقصد سكان المدينة» بعيدون عنها، فهل هذا الذي نريده من انضمامنا إلى منظمة التراث العالمي؟ وهل هذا الذي ستستفيد منه جدة؟
بحسب معلوماتي أن أمانة محافظة جدة رصدت 800 مليون ريال لتطوير وإقامة مشاريع وهذا شيء مفرح، إنما من المهم أن تجني المنطقة التاريخية من هذا الانضمام المزيد من الأموال وتخلق المزيد من فرص العمل للشباب، وهذا العمل لن يأتي بطريقة عشوائية، إنما بطريقة مدروسة، نحتاج إلى شركة متخصصة في إدارة المواقع الأثرية والتاريخية وتطويرها وإدارتها بطريقة احترافية عالمية، بحيث تتاح فرصة تأهيل وتدريب شباب على بعض المهن والحرف الأثرية والتاريخية وتطوير المنطقة بما يوفر جميع وسائل السلامة والخدمات والمرافق التي تسهل للسياح التنقل والتمتع بالمنطقة من دون إرهاق أو تعب أو حتى ملل، من المهم أن يتم تدوين التراث وإخراجه بكل الوسائل سواء أكانت مسموعة أم مقروءة أم حتى على شكل قصص وحكايات.
أعتقد أن إنشاء شركة لتطوير المناطق التراثية وتشغيلها، ويشارك الملاك بحصص من عقاراتهم كمساهمين، سيسهم في تقديم الخدمات وتنوعها، المهم ألا نرى شركة فقط تجمع الأموال، ولا تعرف استثمارها ولا تحقق فوائد ينتهي حالها كحال الكثير من الشركات التي تتشكل بسرعة من أشخاص مجاملون همهم فقط أن يحققوا مكاسب شخصية، وليس تقديم خدمة جديدة للمجتمع.
حينما تسافر إلى الخارج وتزور مناطق أثرية وسياحية، تجد أشخاصاً من المدينة نفسها، وسكانها وأهلها يعملون في مهن وحرف، وأتمنى أن أرى سعوديين وسعوديات في هذه المناطق، سواء أكان من يرسم بالتراب على الزجاجات، أم في المحال التجارية وأن نرى طريقة آمنة لتنقل السياح وأماكن وقوف سياراتهم والمطاعم، والمهم في كل هذا أن نفرغ هذه المنازل القديمة من العمالة المقيمة والوافدة، وأيضاً نفرغها من البضائع المكدسة فيها، ونحوّلها إلى غرفة فندقية تراثية أو تحويلها إلى متاحف، أما عن جدة أو عن البيوت القديمة وملاكها، فتهانينا إلى أهل جدة، فبالفعل جدة غير، كلها خير.
المصدر: الحياة