كاتب إماراتي
عندما كُنتُ صغيراً كانت جدتي مريم، رحمها الله، تحكي لي عن رحلاتها إلى الكويت والبحرين وعُمان. وكانت دمعة تُباغتُ مقلتها كلما ذَكَرت أصدقاءها في تلك الدول حيث لم تكن تقوى على السفر حينها. ولم تفتأ تتحدث عنهم بالخير وتذكر حكايات الأوقات الجميلة التي قضتها عندهم. وكنتُ في زيارة إلى البحرين قبل سنوات، فأخذني صديقٌ لتناول الغداء في بيت أحد أقربائه، وكان عجوزا، أصرّ على لقائي لأنه، على حد قوله، قد اشتاق لرائحة الإمارات، ولكن تردي وضعه الصحي ما عاد يسمح له بركوب الطائرة وتكبّد عناء السفر.
استقبلنا بحرارة وقدم لنا غداءً بحرياً رائعاً، وبعد أن انتهينا قدّم لنا الشاي، وبينما نحن نتحدث ذكرتُ له أن جدتي قضت مدّة في البحرين، وعندما سألني عن اسمها وأخبرته، قام من مكانه وهوى على رأسي يُقبّله ويبكي. ثم نادى زوجته وقال لها: “تعالي، هذا ابن مريم” فأخذت تبكي هي الأخرى. قالا لي عندما تمالكا أنفسهما بأن جدّتي سكنت عندهما عندما زارت البحرين، وكانت نساء الحي يأتين بأطفالهنّ إليها لتعالجهم، فلقد كانت طبيبة متخصصة في الأعشاب والأدوية الشعبية.
وقبل أيام تابعنا بطولة (خليجي 21) لكرة القدم، وأجمل ما كان في البطولة هو برنامج المجلس الذي بثته قناة الكاس، وعلى رغم الحروب الكلامية التي دارت فيه، إلا أن المشاركين من الجيل الجميل من أمثال حمود سلطان وعلي حميد، أشعرانا بأنهما إخوة رغم الجدل والصراخ وعلوّ الصوت.
وعندما عضّ حمود سلطان علي حميد في ذراعه وهو يمازحه، شعرتُ وأنا أرى ضحكاتهما بأنهما من مدينة واحدة، وحي واحد، وربما بيت واحد. تذكرتُ حينها عندما كانت جدتي تُضحكنا بالحكايا عن أصدقائها في الكويت والبحرين، وشعرتُ بالأسى لأننا اليوم لا نلمس هذه المشاعر في داخلنا تجاه بعضنا البعض كخليجيين.
وفي خليجي 19 تحدث الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة عن ذكرياته مع فهد الأحمد وبعض الأمراء الآخرين وكيف كانوا يحيكون المقالب لبعضهم البعض، وعندما سأله المذيع عن جيل اليوم قال إنهم خجولون وليسوا مثل آبائهم! وأراه مصيباً جداً؛ فنحن لسنا خجولين فقط ولكننا رسميين وما عدنا نقيم للعلاقات الإنسانية وزناً إلا إذا كانت بها مصالح،.
ويبدو أن العالم كله يمرّ في حالة برود عاطفي لا أدري لها سبباً! لم تبق في صدورنا عاطفة جيّاشة تجاه إخوتنا وأصدقائنا في دول الخليج، بل إنه عندما يزور أحدنا مدينة خليجية فإنه يفعل ذلك سرا حتى لا يعلم أحد بقدومه!
كان أصدقاء جدتي العُمانيين يتغدّون عندها إذا ما أتوا للتبضع من الإمارات، وفي بعض الأحيان كُنتَ أرى امرأة غريبة أو اثنتين يساعدانها في المطبخ بعد الفجر، وكلما دخلتُ عليهنّ كُنت أراهنّ يطبخن أو ينظفن معها وكأنهنّ من أهل البيت فيمازحنني ويعطينني خبزاً وأخرج للعب مع إخوتي. وبعد سنوات سألتُ أمي عن أولئك النسوة فاكتشفتُ بأنهن لسن إلا صديقات لجدتي أتينَ من عمان والبحرين لقضاء بعض الوقت عندها.
لقد كانت شعوب الخليج أكثر تقارباً وتلاحماً على رغم مشقة السفر وصعوبة الاتصال آنذاك. ولم تكن من عادات الناس حينها أن يشتموا بعضهم البعض، أو يكفروا بعضهم البعض، أو يحيكوا الدسائس لبعضهم البعض كما نفعل اليوم.
رحلت جدتي ورحل مُضيفي العجوز وزوجته، ولم يبقَ من ذلك الجيل إلا الذكريات الجميلة المعبّقة بالأخوة والمحبة الصادقة بين شعوب الخليج التي لم تشعر يوماً بأنها غريبة إذا ما انتقلت من دولة إلى أخرى.
كانت جدتي تطلب مني، مرة واحدة في الشهر على الأقل، أن أفتح دفترها الأسود التي كانت تحتفظ فيه بأرقام أصدقائها الذين كانت أمي وأخوالي يدونون أرقامهم لها فيه، ثم أقوم بالاتصال بهن وأناولها الهاتف، وما إن تسمع صوت إحدى صديقاتها حتى تشرع في البكاء وتنهال عليها بكل عبارات الحب والشوق.
عندما بدأنا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ظننا أنها ستقوي صلاتنا ببعضنا البعض كخليجيين، وقد فعلت في البداية ثم انتكست لتصبح ساحات حرب كلامية، ومزايدات صبيانية. ولستُ أدرى هل هي مرحلة مؤقتة أم أننا، جيل اليوم، صرنا أكثر تنافساً لبعضنا البعض بدل أن نكون أكثر تكاملاً! قالت لي جدتي ما معناه: “إذا أردتَ أن تحب الناس ويحبوك فافتح لهم قلبك قبل بيتك”.