كاتب سعودي و إقتصادي معروف
جمال صديق وسياسي مخضرم ورئيس تحرير سابق. في مقالين في جريدة الحياة: مقال (الأجنبي والثري اللذان أكلا الطبقة الوسطى بتاريخ 01/09/2012 م) ومقال (نعمة السعوديين وتآكل الطبقة الوسطى بتاريخ 25/08/2012 م) عرج فيهما على الاقتصاد السعودي وقضاياه. يطرح أسئلة ويثير أموراً، يجيب أحياناً ويحوم حول الحمى أحياناً كثيرة. محوره الذى انطلق منه هو «الطبقة السعودية الوسطى» كيف تآكلت حسب قوله انطلاقاً من دراسة للدكتور فهد القحطاني أستاذ الاقتصاد في جامعة البترول بهذا الخصوص. لا أريد في هذا المقال مناقشة الخلاصة التي وصلت إليها دراسة الدكتور القحطاني ولا الأسس الإحصائية أو الاقتصادية التي بنيت عليها فهذا أمر مكانه ليس هنا. الأخ جمال وزع نقده وملاحظاته على عدة جهات وفي عدة اتجاهات فلامَ الأجانب ولامَ الأثرياء وتحدث عن الضرائب وعن اعتماد الدولة على الإيرادات النفطية. وسأل لماذا لم تعلق وزارة المالية ووزارة التخطيط على ما وصلت إليه الدارسة؟ وعاد وشكر المسؤولين الذين طلبوا من الدكتور فهد والجامعة إعداد دراسة أخرى بهذا الخصوص. أخي جمال حام حول الحمى لكنه لم يقع فيه. وفي هذا المقال أريد أن ألج إلى مركز الدائرة في حمى الاقتصاد السعودي كما أراه وكما كتبت عنه على مدى أربعة عقود.
أبدأ أولاً بتعريف المصطلح الذي نتحدث عنه وهذه ضرورة منهجية ومنطقية، ماذا نعني بالطبقة الوسطى في المجال الاقتصادي؟ وما هي وحدة القياس الذي بموجبه يكون هذا من الطبقة الوسطى وذاك من الطبقة الأخرى؟ المفهوم العام أن التقسيم محكوم بحجم الدخل المالي فمن كان دخله السنوي على سبيل المثال بالملايين هو من الطبقة الغنية، ومن كان دخله السنوي بمئات الآلاف هو من الطبقة الوسطى العليا ثم يأتي دونها الوسطى الوسطى ثم الوسطى الدنيا، وفي آخر سلم الدخل المالي تأتي الطبقة ذات الدخل المحدود ثم الفقيرة ثم التي فقرها مدقع ولا تملك شيئا وهكذا دواليك. إن القاعدة الأساسية التي يجب أن يبنى عليها التقسيم حسب الدخل هو الإنتاج المنشئ للدخل؛ فالإنتاج هو الموجد للدخل وصانعه وبدون الإنتاج يكون الدخل هبة أو إعانة أو سرقة أو بيعاً لرأس مال أو استهلاكاً لادخار متراكم. الطبقة الوسطى هي الطبقة التي تحتل وسط الهرم الإنتاجي وهذه هي المساحة الأكبر في جسم الاقتصاد والعمود الفقري له. من هذه المنطقة الوسطى يرتفع الفرد إلى الطبقة الإنتاجية العليا طبقة المستثمرين المنتجين وإليها يفد القادمون من الطبقة الأقل طبقة العمال.في الاقتصاد غير المنتج مثل الاقتصاد السعودي حيث الدخل القومي بشكل خاص والفردي بشكل عام غير مرتبط بحجم الإنتاج وإنما بحجم استهلاك الثروة الوطنية البترولية، فإن قياس حجم الطبقة الوسطى بحجم الدخل دون إجراء التصحيح اللازم لربطه بالإنتاج هو تطبيق غير صحيح لمعيار الطبقة الوسطى.
الاقتصاد السعودي اقتصاد يقوم بشكل أساسي ورئيس على استخراج المخزون الوطني من خام البترول والغاز وبيعه في الأسواق العالمية والعيش على إيراداته لتمويل النفقات الحكومية ومنها وأهمها رواتب الموظفين. القطاع الخاص من جانبه يعيش ويقتات من مشروعات الدولة وتقوم صناعاته على إعاناتها؛ لذا فإنه في نهاية المطاف يعتمد على إيرادات الدولة النفطية ولو بشكل غير مباشر. إذن دخل المواطن السعودي في مجمله يعتمد على حجم استنزافنا للثروة البترولية ولا يعتمد على إنتاجنا من السلع والخدمات، وبالتالي فإن دخل الطبقة الوسطى لا يعبر عن إنتاج موازٍ لهذا الدخل.على صفحات جريدة «الشرق» تناولت في عدة مقالات الاستخدام الخاطئ لمعيار اقتصادي آخر هو معيار GDP «الناتج المحلي الإجمالي» وقلت إن استخدام هذا المعيار المعمول به في قياس حجم الاقتصاديات الطبيعية القائمة على مبدأ الإنتاج وليس على مبدأ استهلاك الثروات الوطنية لوصف حالة الاقتصاد السعودي نمواً أو هبوطاً هو استخدام خاطئ بل مضر كل الضرر لأنه يعطي صاحب القرار صورة مضللة لحالة الاقتصاد السعودي ومستقبله. (انظر العدد رقم 155 بتاريخ 07/05/2012م)إن الهبات الحكومية لا توزع بشكل مباشر إلا في حالات خاصة ولمجموعات خاصة وهذا ليس موضوعنا، إن ما عنيته أن السعوديين -موظفين ومهنيين وتجاراً- الفرق بين دخلهم وإنتاجهم أي بين معدل الدخل ومعدل الإنتاج كبير جدا. فالدخل أكثر بكثير من الإنتاج وقد أوضحت الدراسات أن معدل إنتاجية الموظف في القطاع العام متدنية جداً حتى بالنسبة لراتبه المتدني وغالبية الموظفين السعوديين من موظفي الدولة.
أما بالنسبة لرجال الأعمال فيما يخص العلاقة بين معدل الربح والإنتاج فحدث ولا حرج. ويعزى شبه الانفصال هذا بين الدخل والإنتاج إلى النهج والسياسة الاقتصادية للحكومة التي بدلاً من أن تقوم على الحد من استهلاك رأس المال الوطني الطبيعي المتمثل في النفط، والتركيز على زيادة معدل الإنتاجية للفرد وللأمة وزيادة الاستثمار المنتج لتعويض حجم المستهلك من رأس المال الوطني النفطي، أخذت الدولة نهجاً اقتصادياً يقوم على الإنفاق الاستهلاكي دون ادخار واستثمار إنتاجي ممنهج من خلال سياسات اقتصادية محددة وهادفة لتحقيق هذه الأهداف.المعيار الذي يجب استخدامه لتقسيم طبقات المجتمع اقتصادياً إلى وسطى وغير وسطى هو معيار الإنتاج الذي هو الأساس الحقيقي للدخل وليس معيار الدخل القائم على استهلاك الثروة البترولية وتوزيعها كيفما اتفق. الحكومة تستطيع بجرة قلم كما يقول الموروث الشعبي أن توزع الملايين بأشكال وأنواع مختلفة ليس لها علاقة وطيدة بإنتاجية الفرد وترفع حجم الطبقة الوسطى بنسبة عالية بين عشية وضحاها. لكنه ارتفاع وقتي لا يستند على قاعدة إنتاجية للفرد، وكما ازداد حجم الطبقة الوسطى اليوم يمكن أن ينخفض غداً دونما حركة أو تغير في الإنتاج والإنتاجية إنما المتغير الوحيد هو الإنفاق الحكومي المعتمد على الدخل البترولي المعتمد على استهلاك وبيع الثروة البترولية. فهل يمكن في الحالة السعودية أن يكون رفع نسبة الطبقة الوسطى إلى 60% التي يقول عنها أخي جمال خاشقجي دليلاً أو مؤشراً على تحسن الحالة الإنتاجية في الاقتصاد؟ الطبقة الوسطى ودلالتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية محكومة بعلاقة هذه الطبقة بالإنتاج وكونها تشكل قاعدة إنتاجية يستمد منها الاقتصاد قواه الدافعة إلى النمو الاقتصادي والتقني ويستمد منها المجتمع قوى التغيير والتطور. عندما نسقط هذا المصطلح على اقتصادنا السعودي يجب أن نمعن النظر في كينونة وطبيعة وماهية المعيار الذي بني عليه هذا المصطلح، فقد تكون دلالته غير صحيحة وضارة كما هي الحال في استخدام مصطلح الناتج المحلي الإجمالي GDP كما أشرت سابقاً. الطبقة الوسطى في السعودية تزيد وتنقص تنمو وتنخفض انطلاقاً وارتباطاً بزيادة الإيرادات النفطية ومعها الإنفاق الحكومي دون علاقة جوهرية بإنتاج هذه الطبقة، كما هي حال الاقتصاد السعودي ككل الذي يزيد نموه وينقص حسب زيادة الإيرادات النفطية التي لا علاقة لهما بعملية الإنتاج الحقيقي في الاقتصاد السعودي. لذلك تجد أن الاقتصاد السعودي حسب تقارير وزارة المالية تجاوز نموه 5% في عام 2011م. وهذا نمو يتجاوز النمو الذي حققته ألمانيا وأمريكا وفرنسا وكل الدول الصناعية. قد يبدو الأمر غريباً لكن لا غرابة في الأمر إن عرفنا السبب. السبب أن معيارهم لقياس معدل النمو والانكماش الاقتصادي قائم على المعيار الإنتاجي للسلع والخدمات مخصوماً منه الاستهلاك الرأسمالي.
أما معيارنا فإنه قائم على اعتبار عملية استهلاك الثروة البترولية عملية إنتاجية، وهذا هو مربط الفرس ومكمن الخطأ في معيارنا المعبر عن حال اقتصادنا. ومكمن الخطر في هذا الخطأ المعياري هو عدم إظهار الصورة الحقيقية للاقتصاد الوطني لصاحب القرار الذي يظن أن الاقتصاد في نمو مستمر بينما الواقع أن رأس المال الطبيعي في تدهور مستمر. مشكلاً بذلك احتمالاً كبيراً على عدم قدرة الحكومة في الاستمرار في تقديم خدماتها إلى الأجيال القادمة القريبة منا وليست البعيدة. هذه النتائج المقلقة أظهرتها دراسة بحثية عملت عليها خلال العامين الماضيين 2010 و2011م وأتمنى أن أنتهي منها في نهاية العام الحالي لتأخذ طريقها إلى النشر. خلاصة القول إن حال الطبقة الوسطى السعودية كحال الاقتصاد السعودي ينتفخ وينكمش حسب ما يحقن في قنواته من أموال حكومية حصلنا عليها من استهلاك وبيع رصيدنا الوطني من البترول وليس بما أنتجه أو لم ينتجه من السلع والخدمات الاستهلاكية والرأسمالية.