خاص لـ هات بوست: منذ أن وعى الإنسانُ نفسه بوصفه كائنًا ناطقًا، ظلّت اللغة موضع سؤالٍ فلسفيٍّ لا ينقضي: أهي أداةٌ للتعبير أم مرآةٌ للوعي؟، وبينما انشغل الفكرُ الغربيّ طويلًا بتحديد طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، جاء الخطاب القرآني ليقلب هذا المنظور من جذوره، مقدِّمًا فلسفةً مغايرة للغة، فلسفةً ترى في الكلمة فعلًا وجوديًّا، لا وسيلةً نفعية.
فالقرآن الكريم —في جوهره اللغوي والفكري— لا يتعامل مع اللغة بوصفها اختراعاً بشريّاً محايداً، بل يتشكل فيها الحيّز اللغوي في أعلى مقاماته، إذ لا شيء في النص القرآني يُقال اعتباطًا، ولا لفظ يُلقى خارج نظام المقاصد، بل إنّ الكلمة القرآنية تنشئ معناها وهي تُقال، فتتحوّل من صوتٍ إلى كشف، ومن تركيبٍ إلى حدث، و-هنا- تتجلّى المفارقة الكبرى: الوحي لا يستخدم اللغة، بل يُعيد تعريفها.
إنّ دراسة الخطاب القرآني فلسفيًّا ولسانيًّا ليست بحثًا في اللغة فحسب، بل في لغة النص القرآني بوصفه أعلى المستويات اللغوية الممكنة، هذا النص لا يتحدث عن العالم فحسب، بل يُعيد تشكيل إدراكنا للعالم، عبر منطقٍ لغويٍّ يتجاوز الفهم الوظيفي إلى الفهم الكشفيّ، ومن ثمّ غدا القرآن الكريم مختبراً فلسفيًّا للغة، يتقاطع فيه البيان مع الوجود، والتعبير مع الكشف، والعقل مع الإلهام.
حاولت في هذا المقال قراءة الخطاب القرآني من منظور فلسفة اللغة، محاولًا استكشاف كيف تتحوّل الكلمة في النص القرآني من أداةٍ إلى كينونة، ومن قولٍ إلى حدثٍ وجوديٍّ يُعيد الإنسان إلى أصل وعيه بالمعنى؛ وما ذاك إلا لأن الخطاب القرآنيّ يُعد أحدَ أعمق التجليات التي أعادت صياغة مفهوم اللغة في الوعي الإنساني، إذ لم يَعُد الكلام في القرآن الكريم مجرّد وسيلة للتواصل، بل أضحى فعلاً كونيًّا يكشف الوجود ويعيد ترتيب المعنى في الذهن والروح، فاللغة في هذا الأفق ليست أداةً ينطق بها الإنسان، بل فضاء يُفصِح فيه الوحي عن جوهر الوجود، ويُستدرَج فيه العقل من مدار الإدراك إلى مدار الكشف.
وحين نتأمل اللغة العربية من زاوية فلسفية حضارية، ندرك أننا أمام ظاهرة تتجاوز حدود اللسان إلى فضاء الفكر والوجود، فهي ليست لغة تُستعمل ثم تُهمل، بل هي كينونةٌ تتنفس في أعماق الوعي الإنساني، كل حرفٍ فيها نافذة، وكل تركيبٍ مسار، إنها فضاءٌ يُعيد ترتيب علاقتنا بالعالم، تُعلِّمنا كيف نصوغ المعنى، وكيف نُعيد اكتشاف ذواتنا في مرآة الكلمات، هكذا تتجاوز العربية حدود الأداة لتغدو أفقاً حضارياً، حيث تتحاور الهوية مع الكونية، ويولد الوعي من رحم اللغة ذاتها، لتبدو منظومة جدلية تحمل في طياتها تناقضًا خفيًا بين وظيفتها بوصفها أداة وظيفية، وبين قدرتها على أن تكون قوة ميتافيزيقية مولّدة للوعي، هذا التناقض لا يُفهم إلا في إطار الصراع بين ما هو ظاهر –التواصل المباشر– وما هو باطن –التشكيل العميق لطرائق التفكير، ومفاهيم الحقيقة، والهوية، والزمن.
إنّ الفلسفة الحديثة للغة، منذ فتغنشتاين إلى هيدغر، ظلت تنظر إلى اللغة بوصفها بيتًا للوجود أو أفقًا للفكر، غير أنّ القرآن الكريم سبق هذا الإدراك حين جعل القول فعلاً إنجازياً: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، -هنا-يتجلّى التحوّل من اللغة بوصفها وسيلة إلى اللغة كقوة كاشفة، إذ تُخلَق الأشياء بالقول، لا يُعبَّر عنها فحسب، إنّها لغة تفعل لا تقول فقط.
والتحليل اللساني التقليدي يقف غالبًا عند حدود البنية النحوية والدلالة، بينما يتجاوز الخطاب القرآني هذه الحدود نحو ما يمكن تسميته بـ (اللسانيات الوجودية)، حيث تتفاعل الأصوات والألفاظ والمعاني في شبكة من الرموز التي تنفتح على الغيب والوجدان معًا، فكل تركيب قرآني لا يكتفي بإيصال معنى، بل يُحدث أثراً، وينشئ علاقة جديدة بين المتكلم والمتلقي.
إنّ القرآن الكريم حين يخاطب الإنسان بـ (يا أيها الناس)، أو (يا أيها الذين آمنوا)، لا يمارس مجرّد نداءٍ لغوي، بل يوقظ الإنسان من غفلته الوجودية، كأنّ الخطاب نفسه ينقل الإنسان من حال إلى حال، هذه النقلة هي عين فلسفة اللغة في القرآن الكريم، فالكلمة ليست حاملاً للمعنى، بل حاملة للكينونة.
من -هنا- ينجلي البُعد التأويلي العميق في الخطاب القرآني، إذ لا يَستَقرّ المعنى في حدود النص، بل يمتدّ إلى القارئ نفسه، الذي يصبح جزءًا من عملية الكشف، فكل قراءة هي كشف جديد عن طبقة من الوجود، وكل تأمل في الآية هو عبور إلى مستوى أعمق من المعنى، فاللغة القرآنية لا تُفسَّر بل تُكشَف، ولا تُحلَّل بل تُعاش.
إنّ فلسفة اللغة في القرآن الكريم تدعونا إلى تحرير اللغة من وظيفتها النفعية، وإعادتها إلى أصلها الحقيقي، فهي ليست وسيلةً للتفاهم بين البشر فقط، بل سبيلُ تَجَلّي الحقيقة في الوعي الإنساني، وحين يتحدث القرآن عن (البيان)، فإنّما يتحدث عن قدرة كاملة على الإفصاح في نظام لغويّ مخصوص، لا عن مهارة بشرية في النطق.
إنّ الخطاب القرآني —في عمقه الفلسفي— يؤسس لفكرة أنّ اللغة ليست ابتكار الإنسان، وأنّ الكلمة القرآنية هي الحدّ الفاصل بين العدم والمعنى. ومن -هنا- تصبح دراسة الخطاب القرآني فلسفيًّا هي محاولة لفهم اللغة بوصفها حدثًا أنطولوجيّاً، لا ظاهرة لسانية فحسب.
في ضوء ما تقدّم يتّضح أنّ القرآن الكريم لم يقدّم اللغة على أنها نظام علامات أو أداة تواصل، بل كشفٌ للكينونة ومرآةٌ للوجود في وعي الإنسان، فاللغة -هنا- ليست ما (نقول) فحسب، بل ما (نُستَدرَج إليه) من محاولة للكشف عن معانٍ تتجاوزنا.
وحين نتأمل الخطاب القرآني في ضوء فلسفة اللغة، ندرك أنّه يقف في مفترقٍ حاسم بين العلم والسرّ، بين ما يمكن تحليله وما يتعالى على التحليل، فهو نصّ يرفض أن يُختزَل في البنية، لأنه ينتمي إلى مستوى أعمق.
إنّ فلسفة اللغة في القرآن الكريم تُعلّمنا أنّ الكلمة ليست نطقاً، بل حضور، وأنّ الخطاب ليس تبليغًا، بل كشف، لذا فإن الإنسان لا يمكن أن يكون متكلّمًا حقًّا إلا بقدر ما يكون شاهِدًا على المعنى، وأن القرآن الكريم ليس كتابًا لغويًّا فحسب، بل يُعد حدثًا لغويًّا يؤسّس للوعي نفسه.
