كاتب و ناشر من دولة الإمارات
خاص لـ هات بوست:
“في الشرق حين نريد أن نفهم جيراننا، نسأل الغرب.”
قبل أشهر، وجدتُ نفسي في نقاش مع صديق حول العلاقات الخليجية-الهندية وأهمية الهند الاقتصادية المتصاعدة. كنا نتحدث بثقة عن “السوق الهندية” و”الفرص الاستثمارية”، حتى سألني سؤالاً بسيطاً: “هل قرأت كتاباً واحداً لمفكر هندي معاصر؟” صمتُّ. لم أكن أملك جواباً. كنا نحلل دولة بأكملها دون أن نعرف شيئاً عن عقلها.
نعرف لندن أكثر من نيودلهي، ونتابع واشنطن أكثر من إسطنبول. القرب الجغرافي للدول لا يعني قرباً معرفياً؛ الجيران الذين هم على بُعد ساعات، لكننا نعاملهم كأنهم في قارة أخرى.
تخيل أنك تعرف أصوات جيرانك وروائح أطعمتهم، لكنك لا تعرف ملامح عقولهم ولا ما يقلقهم. هذه حكايتنا مع الهند وإيران وتركيا وباكستان وأفغانستان. شعوب تربطنا بها شبكات معقدة من التجارة والجغرافيا، بعضها حليف وبعضها خصم. ومع ذلك، حين نسأل: “ماذا نعرف عنهم فعلاً؟”، يصير الجواب محرجاً.
نحن نعيش مفارقة غريبة. قد تجد من يتابع الانتخابات الفرنسية ويحفظ أسماء مراكز الأبحاث الأمريكية، لكنه يقف عاجزاً أمام سؤال بسيط: من هي أرونداتي روي، الروائية الهندية التي هزت العالم بكتابها “إله الأشياء الصغيرة” وأصبحت صوتاً مؤثراً في السياسة والبيئة؟ من يقرأ أميتاف غوش، المؤرخ والروائي الذي وثّق تاريخ المحيط الهندي وعلاقته بنا؟ من يلتقط التيارات الشبابية في إسطنبول؟ من يفهم التحولات الإيرانية؟
استقرت علاقتنا معهم عند حدود “السياحة والمطبخ”. نسافر إلى إسطنبول لننبهر بالمناظر، ونستمتع بالطعام الهندي وثقافاته، ونسمع عن إيران من الأخبار فقط. نحفظ أسماء المطاعم، لكننا لا نعرف اسم مفكر واحد مهم أسهم في حضارة جيراننا. نلتقط صور المدينة، لكننا لا نلتقط صورتها الفكرية. نعرف الطعام، لكن الأفكار غائبة.
والأسوأ؟ هذا الجهل متبادل. هم يروننا من خلال ناطحات السحاب والنجاحات الاقتصادية، لكنهم لا يعرفون قصصنا الإنسانية. يعرفون الواجهة، لا البيت.
خطورة هذا الغياب المعرفي بسيطة: المعرفة هنا ليست ترفاً، بل أداة بقاء. الجار الذي لا تفهمه قد تسيء فهم مواقفه. في منطقة شديدة التقلب، يصبح أي سوء فهم صغير بداية لكارثة كبيرة. الغرب يخصص جيوشاً من الباحثين لدراسة الصين والشرق الأوسط. أما نحن، فالسؤال معلق: من يدرس الهند بجدية؟ من يحلل التحول التركي؟ من يفكك البنية الفارسية؟ الجواب: قليل.
معظم مراكز الأبحاث في المنطقة ما زالت تعمل كقارئ متأخر، يهرول خلف الحدث بدل أن يسبقه. نقرأ حين يقع الحدث، بينما جيراننا يعيشون تحولات ضخمة ستعيد رسم المستقبل. صناعة المعرفة الحقيقية لا تمر عبر المهرجانات، بل تحتاج مشروعاً جاداً: ترجمة أمهات الكتب، وحدات بحثية تدرس الجار كما يدرس الغرب الصين، تواصل أكاديمي، وإعلام يغوص في العمق. نحتاج كراسي بحثية متخصصة في الجامعات، برامج تبادل أكاديمي حقيقية، ومنح دراسية تشجع شبابنا على التخصص في دراسة جيراننا بجدية.
وأجدني مضطراً لطرح سؤال على نفسي قبل أن أطرحه على الآخرين: متى كانت آخر مرة اقتربتُ فيها فعلاً من عقل الجار؟ متى قرأت رواية فارسية معاصرة، أو تابعت محاضرة لأكاديمي هندي، أو حاولت فهم تيار فكري تركي جديد؟ بل الأدهى، أننا حين نحتاج معلومة عن الهند أو إيران، نلجأ لمصادر غربية تترجم لنا جيراننا! الحقيقة أننا لا نتذكر. وهذا النسيان وحده يكشف حجم الفجوة، لا بيننا وبينهم فقط، بل بيننا وبين العالم الذي يتحرك من حولنا.
معرفة الجار ليست محاولة للسيطرة، بل شرط للفهم. الشرق يتغير بسرعة، ونحن بحاجة لإعادة اكتشافه قبل أن نستيقظ على خريطة جديدة لا نفهمها. في النهاية، الجهل بالجار ليس فجوة ثقافية فحسب، إنه ثغرة استراتيجية.
