كاتب سعودي
ما أقصده بالعلم هنا هو العلم المادي المنهجي المؤدي إلى القيمة المادية والمعنوية أمام العالم.
في العالم الإسلامي أخذ العلم الشرعي الكثير من حقوقه، وله منذ مئات السنين حصونه ومؤسساته والمتخصصون فيه، بحيث وصل التخصص إلى درجة الاقتتال على احتكار الحقيقة. الاجتهادات الفقهية المأذونة (وهي الأقل) والمغامرة المتطفلة (وهي الأكثر) تغلغلت في النفوس والمجتمعات الإسلامية، وأصبحت من عوامل الإنهاك الذاتي والضعف والتفتيت.
وصلت الأمور في الشأن الشرعي إلى مدارك تُوجب عقائدياً تبسيط المفاهيم الشرعية واختزال ألوف الأطنان من المتناقض الفقهي في مختصر عقلاني سهل الفهم يلملم ذوي الفطرة السليمة والنوايا الحسنة على كلمة سواء تصون الدماء والأعراض والأموال والأوطان.
الإشكال في هذه الأماني أنها تبقى كذلك وتحتاج إلى ما هو أكثر من التنظير الفقهي، تحتاج إلى من يتبناها ويجتهد في تحصينها بالقوة العلمية المنهجية المادية. الحقائق على الأرض في كل العالم الإسلامي تقول إن القوة العلمية الفعّالة ليست في أيادي ذوي النواي الحسنة. إيران وحزب الله والحوثيون وكتائب المالكي والقاعدة وداعش والجماعات الجهادية أقوى وأقدر على الفعل من كل الأطراف الأخرى المكتفية بالقنوت والدعاء والداعية إلى الانتحار في اتجاه الحور العين، بالإضافة إلى سياسات مخاطبة المحافل الدولية بأصوات مبحوحة تتوسل العدالة عند من لا يعترف سوى بالقوة.
منذ البدايات الأولى لانهيار العوالم الإسلامية والناس لا يسمعون سوى خطاب الجهاد الشرعي المؤسس على التضحية بالنفس والشجاعة الفردية والانقياد الساذج للواعظ والمحرض وأحياناً المهرج، دون محاولة التعرف على من يقف خلفهم واحتمالات ارتباطاتهم المصلحية بأكثر من طرف، وقبل ذلك على جدواه ونتائجه.
لأول مرة على ما أعتقد، يبدأ التوجس على مستوى الشعوب من التعاطف مع الانتحار خلف الرايات الفوضوية باسم الجهاد الشرعي. الجهاد الشرعي بمواصفاته الحالية يعني ضمناً ضرورة الحصول على أدوات القتال من أطراف أخرى، لا هي مسلمة ولا عادلة ولا متعاطفة إنسانياً، بأجحف الأسعار مع خلطات ملغمة من الغش والخداع والتعامل مع كل الأطراف المتصارعة.
مما يستدعي التعجب والاستغراب أن العالم العربي والإسلامي منذ الانكفاءات الأولى أمام المغول والتتر والصليبيين ثم الصهاينة، لم يتوقف عن الإنصات للتحريض الانتحاري، محاولاً التفكير بهدوء في نهج آخر من أنواع الجهاد، هو البحث عن المصادر العلمية للقوة وإسكات المكلمنجية عن التحريض على قتل النفس بالمجان.
الآن وصلت النيران إلى كل مكان، ولم يبق متماسكاً سوى القلب وهو المحتوى العربي والإسلامي للمملكة العربية السعودية. هذه الديار هي القلعة الأولى للعروبة منذ الأزل وللإسلام منذ الرسالة، ومنها انطلقت العروبة وانطلق الإسلام إلى كل ما زلنا نسميه العالم العربي والإسلامي. هذه القلعة هي الهدف الحقيقي لكل محاولات التفكيك، وبالاتفاق الضمني بين كل من نصنّفهم أعداءً تاريخيين، مسلمين وغير مسلمين.
إذا سقطت هذه القلعة – لا سمح الله -، وتمكَّن الفرس نهائياً في العراق والشام واليمن، والصهاينة في مجموع ما احتلوه وسوف يحتلونه من الأراضي العربية، وأصبحت إثيوبيا سيدة الشرق الأفريقي المتحكمة في مياهه وبحره وسمائه، أقول حين تسقط – لا سمح الله – القلعة الأخيرة، لن يبقى سوى النواح قبل الأفول.
لا منطقة، ولا أمل في الانتصار لمن يتسوّق سلاحه وطعامه ولباسه ودواءه في أسواق الذين يعلن البراءة منهم والحرب عليهم.
من يريد الصمود، عليه أن يفعل ما هو أكثر من الصراخ والتحريض.
هذه المملكة، القلعة الأخيرة، ليست في حاجة إلى الصراخ العصابي والتلاعب التهييجي بالعواطف، كما أن لا فائدة لها من استجداء الضمير العالمي بمخاطبة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. المملكة العربية السعودية، أصالة عن النفس وقدوة للمجتمعات العربية الأخرى تركزت عليها اليوم مسؤولية اللحظة وضرورة التوجه نجو الجهاد العلمي المادي المؤدي إلى القوة الحقيقية، وهو جهاد مجهد ومكلف أكثر بكثير من الكلام الوعظي والصراخ في كل الجهات الأربع.
المصدر: صحيفة الجزيرة