كاتب سعودي, حاصل على دكتوراه في الفقه والقانون من جامعة الزيتونة بتونس
استشعرُ الجدل مع نفسي في ظل محدودية معرفتي بعلم العقائد، فالسياقات التاريخية المُدوّنة قصة الإنسان على كوكب الأرض مُورّطة للكائن المُعقلن، ذلك أن من طبيعة العقل فرز الأشياء عن بعضها، ومقارنة سابقها بلاحقها، وفي مدارج القراءة والبحث يتولّد الشك، وتترجح نسبة الخطأ تلقائياً، فما لُقنّاهُ مبكراً من أن الحقيقة واحدة ومطلقة، ومتوفرة عند أبينا، وإمام مسجدنا، ومدرسنا، أو شيخنا، اتضح بطلانه بمزيد من الاستقصاء والاطلاع وفتح أبواب الحوار، وما سلمناه في السنين الأولى من التلقي على أنها حقائق انتقضت بأمر الله وبنور من العقل الباحث والموضوعي، فالحقيقة المطلقة كالعدل المطلق هي من شأن الخالق جل وعلا، وما نعيشه ونتعلمه هي حقائق نسبية أو جزئية، ما يدفع البعض للكفر بكل مَن وما يدعي الحقيقة، ويصادمه تعنتاً، فالذين يتوهمون امتلاك الحقيقة لا يعرفون شيئاً عن معايير الحكم على المشاهدات والمقروءات والمرويات، أو التمييز بين الدقيق منها والتقريبي، واليقيني والاحتمالي، والقطعي والترجيحي، والمادي والصوري، والديني والدنيوي، والرباني والإنساني، وكل ذلك مدعاة لمزيد من التوتر والدخول في صراعات ملل ونحل، والتعصب لمذهب أو شيخ أو راوية، بحكم أنه يمكن لكل شيخ طريقة أن يؤلف ويلفق من نسبية المعرفة والأوهام ما يظنّها حقائق مفيدة وأخطاء صغيرة لا خطايا تخدم توجهاته وأطروحاته وصحة مذهبه، خصوصاً حين يستظل بسلطة دولة في مواجهة معارضيه، والبحث عن الحقيقة ومناصرتها والتحمس لها جزء من تركيب المخلوق الإنساني كون البشر متناهين والحقيقة مطلقة، إلا أن أزمة الزمن المحدود تعطّل كثيراً، وتدفع الباحثين إلى كشف مزيد ٍ من أسرار التاريخ، ومعرفة كنه هذا الكون، مع العلم أن طرح السؤال في الإسلام مقدّس، والنهي عن سؤال لم يبد جوابه لنا يأتي ضمن آلية الرحمة كون العقل البشري لا يتحمل التسليم ببعض المرويات والماورائيات لهولها وشدة دقتها بحسب ما يتكشف لنا من ظواهر فقط، وبحكم تسليمنا بأن الله لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وبقراءة بسيطة للواقع التياري في السعودية سنلاحظ بجلاء أن كل صاحب فكرة تبناها يرى فيها حقيقته المطلقة، ولا يقبل التشكيك فيها، علماً أنها في الأصل مرويات تاريخية، وحكايات شفاهية تحولت إلى وثائق مدونة، وإلى اليوم لم أر ولم أسمع سوى النادر ممن يشتغل على القواسم المشتركة بين المذاهب والأديان لتحقيق النفع المباشر الملموس للبشر، ولتأهيل المجتمع نفسياً ومعرفياً بعيداً عن التصنيف المذهبي القائم على تصنيف عقدي وهنا مكمن العلة، فاليهود والنصارى افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ونحن سنفترق على ثلاث وسبعين بموجب النص إن صح، ولا تثريب على الافتراق النوعي متى سلمنا بنسبية حقائقنا كوننا لن ندرك الحقيقة المطلقة، ولا ريب أننا ننسى أحياناً العقلاء الفرديين في ظل جنوننا الجماعي.
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٦٢) صفحة (١٠) بتاريخ (٢٢-٠٨-٢٠١٢)