كاتبة سعودية
يرحل بعض الكتّاب بصمتٍ لا لأنهم قلّة قيمة، بل لأن المشهد اعتاد أن يصفّق لمن يرفع صوته لا لمن يرفع المعنى… في زمنٍ بات فيه النجاح يُقاس بعدد المتابعين لا بعمق الأثر، يتحوّل الكاتب الجاد إلى كائنٍ مُحبط، يقف على الهامش، يشاهد السطحيين يُصدَّرون بوصفهم «نجوم المرحلة»، بينما تُدفع التجارب الأصيلة إلى الظلّ.
هذا التهميش لا يصنعه الجهل وحده، بل غشومة إعلام يبحث عن السهل، ونخب اختارت الأمان بدل الموقف، وشلل تشخصن المواقف لتنتقم… فحين يُعقد مؤتمر للفلسفة ولا يُدعى كاتب مثل الكاتب سعد البازعي، اتفقنا او اختلفنا معه، تعرف أن هناك خللاً، بل تُستدعى الشِّلل، نفهم أن الإقصاء لم يعد خللاً عابراً بل سياسة!
وحين يُقام مؤتمر للاستثمار الثقافي بلغةٍ مستعارة، وكأن الثقافة لا تفكّر إلا بالإنجليزية، يصبح من المنطقي أن نغسل أيدينا من الادّعاء، لا من الثقافة نفسها! وحين تقام بعض المؤتمرات الإعلامية ويتصدر المشهد الفاشينستات ومشاهير التيك توك والكتاكيت تغسل يدك مره أخرى…
ما هو الإعلام بلا كتاب رأي؟ قل لي؟ أو هم فئه نتحاشاهم؟ هكذا يُوصم الكاتب الجاد بالثقل، ويُقال عنه إنه غير مناسب وأنا أولهم، فيما تُكافأ القشور لأنها لا تُقلق أحداً، ولا تطرح سؤالاً، ولا تُربك وعياً… أتذكر سألني أحدهم في يوم من الأيام أين أنتِ من مجلس الشورى؟ فردت واحدة من كبار المجلس كانت صديقة لي حتى ذاك اليوم وبكل وقاحة ولكن وقاحة واثقة «لا ما تنفع هذي لسانها طويل»! لماذا؟ لأني أُربك وبلا أجندة…
الإحباط هنا ليس حالة نفسية فردية، بل نتيجة بنية تُقصي الجهد لصالح الاستعراض، وتستبدل النقد بالمجاملات، فتُفقد الكاتب والمثقف الإحساس بعدالة اللعبة قبل أن تفقد المشهد توازنه. رحيل أحمد أبو دهمان مثال فادح على هذا الخلل… كاتبٌ اشتغل بصمت، كتب عملاً واحداً صادقاً ترك أثراً يتجاوز ضجيج كثرة الإنتاج، وفهمه العالم قبل أن نلتفت إليه كما يليق.. لم يكن استثناءً بقدر ما كان مرآة: كيف نخسر كتّابنا بهدوء، ثم نرثيهم بعد فوات الأوان.
المجتمعات التي تُصدّر السطحية تُدرّب ذائقتها على الرداءة، وتقطع صلتها بالتراكم المعرفي.. وحين يغيب الكاتب الحقيقي، لا يملأ الفراغ نجمٌ عابر، بل يتسع الفراغ حتى يصبح قاعدة. الكتابة ليست مهنة ضجيج، بل فعل مقاومة هادئ.. والسؤال ليس لماذا صمت الكتّاب، بل: إلى متى سنسمح للسطحية أن تتحدث باسم الثقافة.. وتخسر الثقافة.
المصدر: عكاظ
