كاتب وروائي سعودي
هل أصبح المواطن السعودي ساذجاً ومستغَلاً ومستغفَلاً إلى حد يكشف قدر بلادته وضمور حسه الإنساني تجاه أبسط حقوقه المعيشية وأقلها في أن يفهم ما يدور حوله؟ ثم هل بلغ به الغباء أن يُسمح للآخرين بأن يزوروا همومه ويُقحَم هو في الاشتغال في ما لا يعنيه ويتدخل في ما لا يخصه ويتشاكل مع الناس سلباً وإيجاباً في انتماءاتهم وأنسابهم وأحسابهم، وتثور ثائرته باحتقان يُلهب القلب بالضغينة والكراهية؛ دفاعاً عن ناديه المهزوم، ومع ذلك لم يسأل يوماً نفسه: لماذا يُدحرَج إلى هاوية الفقر والحاجة من خلال بوابات الأسهم والقروض والمغالاة في السلع؟ ولماذا يصبح كقشة في مهب ريح أمام غلواء جشع التجار واستغفالهم له؟ فالإنسان الذي لا يجهل كل الصفقات المبالغ في موازناتها، والمشاريع التي امتصت من الباطن حتى أصابها الهزال وتعثرت وجَثَتْ أخيراً لتضاف إلى زمرة المشاريع المتعثرة، والمناقصات التي تُعمَّد لحفنة من الشركات المتنفذة بالبلد بقوى خاصة. حتماً لا يجهل مسلسل ارتفاع وتيرة الأسعار والمغالاة في المعيشة إلى حد يفقد العقل فيه صوابه، ولا يبق سوى التحسب! هل يكفي هذا؟ هل سنقف مكتوفي الأيدي وننتظر حتى يكرمنا الله برجل كالقصيبي -رحمه الله-؛ ليحل من أزمات بعض الوزارات المثقلة بأنظمتها البيروقراطية، والفساد المستشري بين أوردتها بما ألحق بها جلطات متعاقبة أفقدها وعيها بمسؤولياتها؟
لقد تأكد لنا بما لا يقطعه الشك ولا يشوهه الظن بأن الفشل ليس أحادي الجانب وإن كان النجاح كذلك، فما تفسده الجماعة يستطيع أن يقيم اعوجاجه شخص واحد، لقد كرر خادم الحرمين -شفاه الله وأبقاه ذخراً للوطن- على مسامع كل الوزراء المنصَّبين بأن المسؤولية قد خرجت من ذمته إلى ذمتهم؛ ليحمِّلهم المسؤولية كاملة في إدارة وزاراتهم، وقد وضعهم أمام الله -سبحانه وتعالى-.. فماذا يريدون أكثر من ذلك؛ كي يصلحوا ما أفسده غيرهم، أو لنقل ما فسد إبان وزاراتهم؟ فإنْ أفلس الإنسانُ من القدرة على عمل شيء مفيد فلا أقل من التنحي الذي عبَّر عنه الشاعر بقوله:
(إذا لــــم تســتطع شيئاً فدعه
وجــاوزه إلـــى مـــــــا تستطيع)
كي يخْلي نفسه من عظم المسؤولية ويبرئ ذمته أمام الله.
كنا إلى وقت قريب نظن بأننا أفلسنا من الإنسان المصحح والنموذج الجيد الذي يعكس طيبة أهل هذه البلاد الأصيلة، التي توارت خلف أعباء الحياة ومتطلباتها. لقد أثبت وزراء تقلدوا مهام بعض الوزارات على مر التاريخ السعودي الحديث أن الإدارة ليست فلسفة معقدة، كما أنها قد تتجاوز كل البيروقراطيات الحائلة دون تحقيق شيءٍ ما يزمع الوزير أو المسؤول تنفيذه؛ بشرط أن تتوافر في ذلك النية الصادقة للعمل والرؤية الواضحة، وهذان المطلبان الرئيسان يجمعهما شيء واحد هو حب الوطن من دون تطلب وتقديم وتأخير في أولويات المسؤول الشخصية، لن أتوقف عند أسماء كان لها أثر جيد على الوطن، مع أني ذكرت الدكتور القصيبي كعلامة فارقة في الإدارة السعودية يجب أن تدرس في جامعاتنا؛ كي يتخرج الطلاب على النهج نفسه، ويتحلوا بالروح الإدارية ذاتها بتلقائيتها وصدقها.
اليوم أرى ملامح من التقاسيم الإدارية ذاتها يجسدها بتجربة عملية ممنهجة وحازمة وزير التجارة والصناعة معالي الدكتور توفيق الربيعة، الذي لم يتردد بعض المغردين من نعته بوزير الشعب الذي قدم إلى وزارة التجارة، وهي تقريباً غائبة عن الوعي، وبحال مزرية، ليقوم سريعاً بإجراء كل الفحوصات اللازمة، ويبادرها بتغذيتها بأجهزة التنفس الصناعي؛ استعداداً لإجراء العمليات اللازمة، ويوم تحدثت بصوت مسموع كشفت عن كمية الاستغفال وعمق الاستغلال الذي كان يتعرض له الشعب، من التجار وأصحاب رؤوس الأموال المتنفذين بالبلد، والمواطن المسكين رافع راية الاستسلام بعدما بُحَّ صوته في وادٍ لا صدى يوصل كما يتغنى بها صوت الأرض طلال مداح -رحمه الله-، ليرتد إليه الصوت ومعه حفنة من تراب تلقى على وجهه، ماذا فعل معالي الدكتور توفيق الربيعة في وقت يعد نسبياً قصيراً في عمر الوزراء الذين لا يحركون ساكناً؟
لقد تتبع مكامن الوجع، فوجد أنها تنبعث من احتكار هوامير التجار للسوق من خلال وضع آلية واضحة ودقيقة للعمل منها وضع مؤشر عام للأسعار من خلاله يمكن تقييم السلعة وفق معايير واقعية، وملاحقة أي غش في السلع، ولا يمكن أن يحدث هذا بمعزل عن تكثيف الجهود الرقابية وتلقي البلاغات والشكاوى والنظر إليها بعين الحزم، وهذا ما قام به فعلاً وأشرف عليه معاليه بنفسه.
وقد نقلت لنا الأخبار كيف تعرضت بعض فروع شركات تجارية كبرى للإغلاق بسبب التدليس في التخفيضات، وقد لمسنا الانخفاض الحاد في أسعار بعض المصنعات من الأدوية، خصوصاً الفيتامينات منها، ذات الأسعار المبالغ فيها، وهذا لعمري مؤشر ذو دلالة واضحة؛ مؤلمة مفادها: إن المواطن المسكين الذي يحلو له الفزع عند أهون الأشياء، ويتصارع على أحقرها، سيظل في نظر هؤلاء التجار مستغفَلاً ومستغَلاً لا يستطيع أن يرى أبعد من شراك نعليه، لذلك يمرر عليه كل شيء طيفاً خفيفاً، وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، وتقف الحنجرة الواسعة والصوت الملبد بالغضب لتوافه الأمور عاجزة عن الدفاع عنه، فلا يرفع من شأنه ويُعلي قدرَه سوى عدد قليل من الرجال الأفذاذ، من مسؤولي الدولة الذين وضع خادم الحرمين الشريفين -شفاه الله- بأيديهم الأمانة، فأدوها كما ينبغي على الوجه الأكمل، وكان من بينهم ذو علامات وفروقات أوجدت الاختلاف، كما فعل القصيبي، وكما يفعل وزير العدل الدكتور محمد العيسى، الذي بدأ ينبش عن الصفقات العقارية الوهمية، ويعيد صياغة اللوائح بما يتزامن ويتوافق مع روح العصر.
أما الدكتور الربيعة الذي طفق بما أوتي من قوة يجلي الحقائق، ويكشف المستور بإدارة صادقة وواعية، فأحسبه أمة في رجل وكان الرجل المناسب في المكان المناسب ، وأمام إنجازات ثلة قليلة من الوزراء يجب أن يتوقف العجز الذي دب في أوصال كثير من المسؤولين وأقعدهم عن تأدية واجبهم على الوجه الأكمل، ولكن سؤالي إلى الوزيرين الدكتورين الفاضلين الربيعة والعيسى (ما حيلة معاليكم أمام عجز المواطن عن الحصول على سكن له في بلاد الصحراء والرمال، ليس من قلة مساحات، بل من جشع مستحكِم، ونهب مستبد ؟ إننا لنرى وسط مدينة الرياض مساحات شاسعة لا تسبرها العين المجردة لا تزال خلاء أجرد. هل ستسن قوانين صارمة لهذا الاحتكار والنهب ؟ المواطن مسكين عاجز مستضعف إلا بحول من الله بأن يبعث بوزراء أنقياء كغازي القصيبي -رحمه الله- وتوفيق الربيعة والدكتور محمد العيسى أعانهما الله.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Mohammed-Al-Mzini/